عندما أستعيد شريط الأيام الخوالي تتجسد أمامي صورتك البهية وكنت آنذاك على أعتاب الخمسين من عمرك في قمة عنفوانك وقوتك ورجولتك وعطائك تذكرتك والجراحُ تنزف، والدموع تذرف، كلما حركتها الذكرياتُ، وتتوالى الأعوامُ الحُبلى بالأنينِ والحسرات، لتروي حِكاية إنسان أقتحمَ العواصِف بعنفوان ونفضَ عن أرضهِ غُبار الأحزان، فنال وسَام الشهادةِ بشرف وكبرياء، مضى في الدربِ مَرفوع الهامة، يحملُ همومَ بني وطنه ، يغسلُ الجراح، يُسابق الرياح، يُلبي النِداء، يُطرز الأحلام بخيوطِ الأملِ، بعناقيدِ الضياء، ينثرُ أبيات الشعر و القصائد في كل مناسبة ، بكلمات خضراء، تدخلُ القلبَ دونَ استئذان.
أبي : أيُها الشهيدُ المِغوار ما زالت بَصماتُ ذكرياتك تركتها بيضاء نقية وأنفاسكَ ما زالت عطِرة في ترابِ الأرض أشمُ عبيرهُ، ممزوجاً بسيول وادي مربون وروافده من شعاب كور العوالق التي تحمل الطمي والخصب والنماء ، عندما كنت تحملني و نعبر الساقية وتخوض بنا السيل حتى نصل إلى الحقل وننتظر حتى يرتوي ثم تسد مدخله بالباب الخشبي ، لا زلت أذكر تلك اللحظات التي تختزنها الذاكرة وعندما استدعيها تلمع في وجداني كالبرق و مازالت تضيء ذكرياتي والأيام الخوالي عبر السنين ، في قلبي يقبعُ حُزنك الأبدي، وفي قلوبِ كل المحبين، فالنورُ والحروفُ الخضر لا تموتُ أبدا ..هكذا علمتني أن الحياة عشب أخضر والحقول والبساتين تنمو وتزهر وتنتج الثمار رغم الجراح، وأ شجار الليمون التي غرستها ستكبرُ مع الأيام لتُضللَ أرضنا، وستضيءُ ثمارَها وتشعُ بأوراقها الخضراء لتنير طريقنا رغم إرهاب السلطات وجواسيسها الذين يتنصتون عبر الجدران ويلفقون التهم والتقارير الكاذبة ضد كل حر شجاع يصدع بالحق في تلك الأيام السوداء من القرن العشرين في ظل نظام قمعي وحشي يكمم الأفواه مارس حكمه بالعسف والإرهاب والهوان على أرض الجنوب العربي ،قام جلاوزته باختطاف آلاف الأبرياء من أبناء الجنوب في السبعينات من القرن الماضي منهم من ذوى في السجون الرهيبة ومنهم من تم قتله وقذفه في آبار مهجورة ومنهم من تم رميه في الصحراء والشعاب وتركوه طعاما للوحوش والضواري ...وقد نصحك محبوك بمغادرة الوطن خوفا على حياتك ولكنك رفضت المغادرة رغم علمك أنك في رأس قائمة المطلوبين وتوسلت إليك أن نخرج سويا من الوطن الذي تحول إلى سجن كبير ولكنك رفضت الخروج .. وعرفتُ أنك لم تهابُ الموت، فقد أخبرتني قائلا: لم يبقى لي سوى قطراتُ دماء، سأهدرها عاجلا أم آجلا، فأرضُنا ما زالت عطشى شرايينها لم ترو بعد.. وشجرة الليمون ظمآنة تريد أن تكبرَ وتنمو.
أخبرتني عن حكاية الأرض والإنسان عبرَ التاريخ وعبرَ الزمان، وكيف يعيشُ الشعبُ مُهانا، بلا هوية.. بلا بصمة.. بلا عنوان، يجرع ُ كؤوس الحرمان، يموتُ خلفَ القُضبان، يتشردُ.. ينفى.. يغتربُ.. يُذلُ.. ويُهان من قبل الطغاة
وكيف يقيدُ بالسلاسل وكيف يغتال؟
أخبرتني عن حكاياتٍ كثيرة، وعلمتني من حروفِ النضال كيف تطرزُ البطولات في حلباتِ الصراع، وإن النصرَ صعبُ المنال، لن يأتي على طبق الأمنيات ولا على بساطِ الرياح ولا بعفاريتِ خاتم سُليمان، لكنها تأتي بالتضحيات وبنورٍ مِن الإيمان شممتُ فيك عطر وادي يشبم ، ارتويت من كلماتِك العَذِبة وشعرك الذي يدوي في الوادي كصوت الرعد ، ومِن ترانيم صوتك، وأنتَ تُرددُ قصائدك، وصَداها ما زالت تجولُ في خاطري وترن في أذني ، والتصقت كلِماتها بشفتيّ اللتينِ طالما قبلتا جبينكَ الشامخ،
عندما أوقظكَ مِن النومِ للذهاب إلى الحقل فتدثرُني بحضُنِك الدافئ إلى جانب إخوتي محمد وأحمد الذي كان طفلا صغيرا ولكنه استحوذ على قلبك ، دوننا جميعا وكنا نشعر بحبك لنا جميعا يا أبي ولكن أحمد كان له نصيب الأسد ..وكنا نلقب أخي أحمد بـ "يوسف" وعندما بدأت عواصف الاغتيالات تجتاح أرض الجنوب أمرتني يا أ بي بالرحيل خارج الوطن بعيدا عنك وخوفا علي ورحلت مع الحجاج وذهبت معي إلى الوادي حيث يتجمع الحجاج للسفر وكان البرد شديدا والريح تصفر كأنها تعزف لحن الوداع الأخير والسماء تهطل برذاذ خفيف كأنها تبكي .. لحظات الوداع وأنت ترتدي سترة زرقاء من الصوف ومعوزا زاهي الألوان كقلبك الطيب وعلى رأسك عمامة بنفسجية تبرز من طياتها نجوما مرسومة باللون الأسود والأبيض ..وعلى كتفك بندقك "العيلمان" و كان الوقت عصرا وقد حجبت الغيوم السوداء ضوء الشمس ..وحان موعد السفر واحتضنتني بقوة وكانت العبرة تخنقني وتمالكت نفسي ولكن عيناي خذلتني فحاولت إداري دموعي وفشلت ..وكنت يا أبي تواسيني ولم تهتز فيك شعرة واحدة كنت صلبا قوي الإرادة وقبلت يديك عدة مرات ثم أخذتني بيديك واتجهنا إلى السيارة وصعدت ولكن عيناي بقيت تنظران إليك وأنت واقف تلوح بيديك حتى اختفت السيارة في منعطف وادي مربون !!
د. علوي عمر بن فريد