الكتابة عن الماضي هي امتداد للحاضر.. الفرق الوحيد بينهما قد يكون هو حنين الإنسان لماضيه أكثر من واقعه الحالي وخاصة عندما تتقدم به السن ويحن إلى أيام شبابه وذكرياته ومن حب الناس للماضي يطلقون عليه "الزمن الجميل" وقد يكون هؤلاء الناس على حق في هذه التسمية عندما نقارن بين سهولة الحياة وبساطتها زمان وتعقيداتها اليوم وخاصة المخاض العسير الذي مرت ولا زالت تمر به بلادنا الجنوب العربي من حروب ودماء وكراهية !!
وعندما نرصد الفرق في السلوك والمعاملة بين الأمس واليوم نجد كل شيء قد اختلف جذريا في التراحم والتآلف والترابط الاجتماعي والبساطة والعلاقات الإنسانية ولا أدري هل السبب هو الناس وجشعهم ومطامعهم وسؤ نياتهم تجاه بعضهم؟ أم السبب هو الصراع على المصالح المادية ؟!!
أم السبب عصر السرعة و ضريبة التقنية والتكنولوجيا التي قفزت قفزات هائلة في إل50 سنة الأخيرة أم ماذا؟
علما أن وضعنا المعيشي والاجتماعي في الستينات كان هو الأفضل عندما كانت أحلامنا تعانق السماء وطموحاتنا لا حد لها في المستقبل وتبخر ذلك كله مع ما يجري اليوم من حروب وكراهية تحت مسميات " الوحدة" التي دمرت الجنوب واليمن معا رغم أننا كنا نحلم بمستقبل أفضل في تلك الأيام ولكن حصل العكس تماما حتى في المعاملات اليومية بين الناس وهذا هو الفرق بين الحلم والواقع !!
ومن الطرائف التي تناولت هذا الموضوع شاهدت رسما كاريكاتوريا في إحدى الصحف التي نقلت المشهد: شخص واقف أمام باب فيلا صديقه الذي لم يره منذ زمن طويل فقرر زيارته وضغط على جرس الباب، وجاءه الصوت من الداخل
نعم .. من على الباب؟ أنا حسين .. محمد موجود؟
نعم.. أنا محمد.. كيف حالك يا حسين..؟ والله زمان يا شيخ ما شفناك .. أخبارك؟
الحمد لله أنا بخير .. كيف أحوالك؟
الحمد لله .. يا حسين أنا مشغول أعذرني وبعد قليل طالع عندي مشاوير..نشوفك مرة ثانية .. لا تنسى ..سلم على الأصدقاء .. نشوفك مع السلامة!!!
وانصرف حسين دون أن يسلم على صديقه محمد..أو يراه!!
هذا مشهد ساخر لتردي علاقات الناس مع بعضها البعض.. في عصر التكنولوجيا ووقع الحياة السريعة !! ومن السلبيات في الزمن الحاضر تراجع العلاقات بين الناس.. فتجد مثلا عمارة تسكنها عدة عائلات ..والجار لا يسأل عن جاره.. لا يزوره.. لا يعرفه.. يسافر.. يمرض ..الخ ولا يعرف عنه شيئا!!!
إذن الكتابة عن الماضي وذكرياته ليست مجرد اجترار لأيام خاليه ولت.. وإنما استعراض لسلوكيات ومعاملات إنسانيه كانت سائدة في مجتمعات الأمس.. نادرا ما نجدها اليوم في تعاملاتنا مع بعضنا البعض..بل أكاد أجزم أنها قد اختفت وقد افتقدناها في حياتنا اليوم.. فما هو السبب في ذلك؟!!!
لعلنا نجد المواساة لما يجري من تحولات جذرية في حياتنا باسترجاع شريط الذاكرة للأيام الخوالي التي مرت في حياتنا
وتعود بنا الذكريات لسنوات العز في الستينات والسبعينات التي عشناها في بلادنا وخاصة عدن عاصمة الجنوب العربي و كانت أجمل ذكريات عاشها الناس في ذلك الزمن الجميل!! ونبدأ بشريط الذكريات عن أهم الملامح التي اختزنتها الذاكرة
في الستينات كنت مع مجموعة من زملائي الطلبة في مدرسة زنجبار الوسطى – أبين ..نقوم برحلة كل شهر إلى عدن لزيارة أقاربنا العاملين هناك في عدة مجالات وكنا ننطلق نهاية دوام يوم الخميس الساعة 12 ظهرا، ونتوجه إلى سوق زنجبار القريب من مدرستنا سيرا على الأقدام ثم نركب في سيارات أجرة على حسابنا الخاص من نوع جيب لاندروفر، لا يوجد أسفلت في ذلك الوقت من زنجبار حتى نصل "الكود" ثم تنزل السيارة على شاطئ بحر العرب، والبعض منا واقف أو جالس في السيارة ونسمات البحر تنعشنا حتى في حر الصيف، ومنظر الموج الأبيض – الأزرق يرتفع من عرض البحر ثم يتكسر على الشاطئ بينما سيارتنا تنهب الأرض مسرعة..وبعد حوالي ساعة نقترب من مركز العلم بوابة سلطنة الفضلي من وإلى عدن وفيه مركز الشرطة..نمر عبر البوابة ثم نخرج منها بعد السؤال عن الركاب.. لا يوحد معنا هويات وطنية ولا جوازات .. ولا أوراق ثبوتية كانت كلمة المواطن صدق وشرف شكلا ومضمونا ولا أحد يسألك من أنت؟! طالما سحنتك وهيئتك "جنوبي" لا فرق من الفضلي من المهرة.. من حضرموت.. من العوالق من أي مدينة في الجنوب أنت مرحب بك في بلدك ..حيثما رحلت وأينما حللت.. .. انه شعور يملأ كيانك بالأمن والطمأنينة والسلام ّوالفخر ونحن نشاهد من مركز العلم جبل شمسان الأشم .ونترجل من السيارة التي تقلنا حسب وجهة كل واحد فينا ..وأنا أنزل عادة أمام بوابة معسكر قوات الأمن التي كانت تعرف ب "شبرد" في معسكر شامبيون لاين – عند أقاربي الذين يعملون في تلك القوات من أبناء العوالق ..وعادة أنزل عند أعمامي أو ابن خالي أحمد عبدالله مجلبع الذي يستضيفني عنده في سكنه الخاص والمستقل داخل المعسكر.. .والمسافة من زنجبار إلى عدن حوالي 70ميلا بالسيارة على ساحل البحر .
والى اللقاء في الحلقة الثانية – د.علوي عمر بن فريد