لا شيء يحدث في اليمن من دون مقدمات، هذا هو اليمن برغم التعقيدات التي يصعب تفسيرها، غير أن أحداثه وتحولاته يمكن توقعها، فلا حاجة لعراف أو مُنجم ليكتشف مآلات ما سيكون في هذا الجزء من العالم.
حتى نفهم ما حدث في جبهة «نهم» وهي إحدى مديريات محافظة مأرب، والتي لا تبعد عن صنعاء سوى عشرين كيلومتراً فقط، علينا العودة سنوات إلى الوراء، وتحديداً عندما أسقط الشعب المصري في 30 يونيو 2013 حكم «الإخوان» المسلمين، كان هذا الحدث مفصلاً، تقرر من بعده وضع استراتيجية مغايرة لمحور الشر الإخواني باتخاذ اليمن كمهدد للأمن السعودي، عبر الأذرع هناك والمتمثلة في «الحوثيين» كذراع إيراني، وحزب «التجمع اليمني للإصلاح» كذراع للتنظيم الدولي لجماعة الإخوان.
التنفيذ بدأ عملياً في محافظة عمران (يوليو 2014) وهي معقل من معاقل حزب الإصلاح في شمال اليمن، أُسقطت عمران بيد الحوثيين وظهر فيها الرئيس عبدربه منصور هادي معلناً عودتها لحضن الدولة، كان الحدث زلزالاً مدمراً لم يتم استيعابه، حتى تمت عملية استلام وتسليم العاصمة صنعاء في سبتمبر 2014، عندما سلم «حزب الإصلاح» المدينة بدون قتال للحوثيين وباعتراف قيادات «الإخوان» الذين أكدوا عدم خوض مواجهة مع القادمين من كهوف صعدة، دون تقديم تفسيرات لما حدث في تساقط مدن وقرى الشمال اليمني الواحدة بعد الأخرى.
في فبراير 2015 بدأ الحوثيون غزو المحافظات الجنوبية، وكان لافتاً أن مليشيات الحوثي كانت تغزو العاصمة الجنوبية عدن، عبر مسارات كانت بيد «الإخوان» في تعز وتنظيم «القاعدة» في البيضاء وأبين، لم يجد الحوثيون مواجهة تذكر حتى وصلوا عدن، وبدأت المعارك للسيطرة عليها في مارس 2015، هذه السلسلة من الأحداث الدراماتيكية لم تكن تجد تفسيراً آنذاك، فالحكومة اليمنية التي كانت تدعي هيكلة الجيش، كانت في حقيقتها تفرغ القوة العسكرية لمصلحة «حزب الإصلاح».
كان المخطط «الإخواني» يقضي بفرض السيطرة على مضيق باب المندب والسواحل البحرية المطلة على بحر العرب والبحر الأحمر، المخطط في هذه المرحلة كان يهدف لإخضاع أهم المواقع الجغرافية ومن بعدها سيتم التعامل مع بقية الجغرافية اليمنية، خاصة أن معظم المحافظات الجنوبية التي تمثل ثلثي مساحة اليمن تخضع لسلطة الأمر الواقع التي أفرزها احتلال الجنوب في 1994، وهي واقعة لموالين لـ«حزب الإصلاح». تأكيداً لذلك المخطط، فإنه بعد انطلاق «عاصفة الحزم» بأسبوع واحد فقط، حدثت عملية استلام وتسليم أخرى في المكلا ثاني أكبر مدن المحافظات الجنوبية، فسلمها «حزب الإصلاح» لتنظيم «القاعدة» بدون طلقة واحدة، في رد مباشر على الخطوة السعودية بقيادتها للتحالف العربي.
كل هذا جاء تأكيده من ما نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية في نوفمبر 2019 عن تسريبات للاستخبارات الإيرانية، أفادت بأن اجتماعاً احتضنته تركيا بين التنظيم الدولي للإخوان والحرس الثوري أفضى بأن يكون اليمن مساحة مهددة لأمن السعودية، رداً على تأييد الرياض لثورة الثلاثين من يونيو في مصر، وهو ما يفسر لاحقاً أحداث أخرى حدثت، لا يمكن تجاهلها في هذا السياق. بعد تحرير عدن، أسقط «هادي» بإيعاز من حزب «الإصلاح» نائب الرئيس خالد بحاح وحكومته، وأتم «الإخوان» قبضتهم على المؤسسة الشرعية السياسية، ومن بعدها استطاعوا تشكيل مؤسسة عسكرية موالية لهم، واستطاعوا أيضاً السيطرة على الموارد المالية، إضافة لذلك نجحوا في استنزاف التحالف مالياً وحتى سياسياً، من خلال رفضهم كافة الحلول السياسية أو التقدم عسكرياً في جبهات القتال، بل باتوا- وحسب بيانات وزارة الدفاع اليمنية- يمتلكون جيشاً قوامه 400 ألف مقاتل.
الواقع العسكري بسقوط جبهة «نهم» لا يغير في المشهد العام كثيراً، لكنه يضع الأمن القومي أمام واقع صعب للغاية، فالحوثي و«الإخوان» وجهان لمعادلة واحدة تهدف في نهايتها للسيطرة على جنوب الجزيرة العربية، ومن المؤسف أن تمددَ قوات حزب «الإصلاح» في وادي حضرموت وشبوة وأبين، يعني وقوع عدن والمكلا وكذلك الحُديدة في شبكة تهدد كافة مكتسبات التحالف العربي في الحرب، والتي استطاعت تحييد النقاط الأساسية (عدن والمكلا والحديدة) من قبضة المحور الإيراني «الإخواني». ليس هذا وقت تصفية الحسابات، بل وقت ملائم لتقييم الواقع في اليمن جنوبه وشماله، التقييم لخطر جسيم يتحدث عن عدم وجود لجيش وطني بسيطرة قيادات «الإخوان» عليه وعدم وجود شرعية سياسية بعد أن نخرها الفساد، وبعد العبث الذي مارسته قيادتها ومحاولتها تصفية حساباتها مع خصومها في الجنوب، وذلك الغل على الجنوب بقضيته وقياداته.
ليس هذا وقت تصفية حسابات، بمقدار وضع حلول صحيحة تراعي مصلحة الأمن القومي العربي، بداية من تجريف كل القوى المناوئة للعرب من الجنوب، كمحافظات أثبتت سنوات الصراع ولاءها للمحور العربي، وأثبتت قيادته المتمثلة في «المجلس الانتقالي الجنوبي» وشعب الجنوب من خلفه، أن لا مكان للمشاريع الموالية لإيران أو تنظيم «الإخوان»، لا مكان لها في جغرافيا تقاسم فيها جنود السعودية والإمارات انتصاراتهم على قوى الشر.
ما حدث في مأرب مجرد صورة مكررة لأحداث سبقت في افتعال معارك وهمية بين أفاعي تقتات من وعاء شر واحد، لا تريد استقراراً ولا تريد أمناً لهذه المنطقة، بل تسعى لنشر شرها وسمومها والحلول تأتي من القرارات الشجاعة بهيكلة الشرعية كلها، وتجميد الأحزاب الدينية والاعتماد على دولة جنوبية فتية تحاصر الشر في شمال استوطنته قوى التخلف والفوضى والخيانة.