الفرنسيون يتأهبون لرمي صنارتهم للمجلس الانتقالي الجنوبي في سياق تزاحم دولي حول الجنوب. فالمعطيات التي أفرزتها الحرب في اليمن بعد أربع سنوات بدأت في إفرازاتها وفقاً لتلك التفاعلات الداخلية، التي لم تتعلق أصلاً بتفجر الأوضاع في شمال اليمن بانقلاب الحوثيين على المؤسسة الشرعية، بل ولا تتعلق بانقلاب حزب التجمع اليمني للإصلاح على نظام الرئيس علي عبدالله صالح في ما يسمى الربيع العربي في عام 2011، بل إن تفاعلات سابقة مهدت لكل هذه المعطيات السياسية، قبل أن تكون عسكرية، هي التي أوصلت اليمن إلى واقع لا يشابه ما كان عليه عام 2015.
التعقيدات اليمنية ليست وليدة أزمة انقلابات الحلفاء المحليين في شمال اليمن. التعقيدات لها جذورها العميقة في اليمن، بشماله وجنوبه، وإن كانت الوحدة اليمنية في العام 1990 شكلت مساراً مختلفاً لشطري اليمن، وكانت واحدة من المنعطفات التاريخية التي كان من الممكن أن تصنع مسارا سياسيا يتجاوز إخفاق شطري اليمن في تأسيس الدولة الوطنية، إلا أن صنعاء أضمرت شراً انعكس على الجنوب من انقلاب صنعاء على وثيقة العهد والاتفاق المبرمة برعاية الملك الحسين بن طلال، ملك الأردن، ثم اجتياح الجنوب وفرض سياسة الأمر الواقع بقوة السلاح في صيف العام 1994.
على مدار أكثر من عقدين نجح الرئيس السابق علي عبدالله صالح في اللعب على تباينات الجنوبيين وخلفياتهم السياسية التاريخية، مستندا على صراع يناير 1986 وما أفرزه عبر ما يصطلح جنوبياً بفريقي الطغمة والزمرة. ولعل هذا التباين رجح موقف علي عبدالله صالح في حسم حرب 1994، وعليه استمر الرئيس صالح في فرض الواقع السياسي على الجنوب، حتى بدأت الهوة الجنوبية تضيق في 2007 مع إطلاق الحراك الجنوبي لمبدأ التصالح والتسامح واستجماع الإرادة الجنوبية شعبياً وتوحيدها نحو استعادة الدولة الجنوبية إلى ما قبل العام 1990.
عندما انقلب حزب الإصلاح على الرئيس صالح في 2011 ووُضعت المبادرة الخليجية وآلياتها التنفيذية كمسار لحل الأزمة اليمنية، أدركت دول مجلس التعاون الخليجي أن القضية الجنوبية يجب أن تخضع لمعالجة ضمن معالجة الأزمة اليمنية بالكامل. ولذلك تمت دعوة القوى الجنوبية في ديسمبر عام 2012 والتي بدورها قدمت ما أطلق عليه “وثيقة الرياض” التي أعلن فيها الجنوبيون تأييدهم للمبادرة الخليجية وترحيبهم بالمشاركة فيها، في مقابل عقد مؤتمر جنوبي واسع لتمثيلهم سياسيا، سواء في مؤتمر الحوار الوطني أو في غيره من المسارات السياسية.
شعر الرئيس عبدربه منصور هادي أن الجنوبيين سيشكلون كتلة الضغط على سلطته الوليدة، فهو ينظر لخصومه الجنوبيين كأعداء باعتباره واحدا من أطراف المهزومين في أحداث يناير 1986 وما زالت تلك العقدة في رأسه. كما أنه يعتبر عدم تأييد الجنوبيين له في الاستفتاء الرئاسي انتقاصا شخصيا له، ويضاف إلى ذلك أن الرئيس هادي يرغب في مقايضة القوى الشمالية سياسة وقبلية بالجنوب في التوازنات، وهذا ما حدث بالفعل من خلال أنه استدعى فصيلا جنوبيا استخدم في مؤتمر الحوار لإقصاء القوى الجنوبية المطالبة بحق استعادة الدولة الجنوبية.
أفضى مؤتمر الحوار الوطني لما أفضت إليه وثيقة العهد والاتفاق. فقد انقلب اليمنيون على ما أوهموا العالم بأنه حوار وطني جامع لهم. الانقلاب على مؤتمر الحوار أدى إلى انقلاب على الشرعية في صورة مكررة تماماً لانقلاب اليمنيين على وثيقة العهد والاتفاق التي أدت إلى احتلال الشمال للجنوب.
هذه الواقعية في قراءة المشهد اليمني قد لا تكون مستساغة عند كثير من المراقبين العرب الذين وضعوا تصور المرجعيات على أساس أنها آيات قرآنية لا يجوز الخروج عنها في تكريس لفرض ما تريده قوى الشمال وترغب في تدوير الصراع السياسي الذي بات مفضوحا، ولم يعد مبرراً مع فشل الشماليين في تحرير محافظاتهم بعد سنوات من عاصفة الحزم.
شكلت عاصفة الحزم منعطفا حادا تغيرت فيه توازنات القوى في اليمن، وعلى ذلك كان الجنوبيون إحدى القوى التي استطاعت أن تحقق مكاسب عسكرية واسعة، واستطاعوا أن يفرضوا قضيتهم سياسياً بعد تشكيل المجلس الانتقالي الجنوبي، إلا أن المقاطعة العربية لدولة قطر شكلت عاملاً آخر في التعاطي مع القضية الجنوبية، على اعتبار أن الجنوبيين يتوافقون في حظر جماعة الإخوان المسلمين مع دول المقاطعة العربية وقاموا بإعلان التنظيم جماعة محظورة في المحافظات الجنوبية، وهو ما يمثل أيضاً بُعداً آخر فالقطريون ومنذ العام 1994 كانوا ضمن الرافضين لفك ارتباط الجنوب عن الشمال في موقف مناهض لموقف المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات آنذاك.
التدافع الأميركي والروسي والبريطاني على الجنوب سيتبعه تدافع فرنسي وشيك، فالكل أخرج من الأدراج توصيات أممية بمنح الجنوبيين حق تقرير المصير. وتدرك هذه القوى الدولية أن هذه المساحة الجغرافية بما تمثله من قيمة جيوسياسية يمكن أن تلعب دوراً في الصراعات الدولية، وتدرك القوى الإقليمية، بدورها، أن مسألة فصل التوأم السياسي في اليمن باتت حقيقة، فوحدة العام 1990 انتهت وحتى أقاليم الرئيس عبدربه منصور هادي قُتلت برصاصات الحوثيين، وأن هادي وحزب الإصلاح يستخدمان الجنوب كورقة ابتزاز للإقليم العربي.
القضية الجنوبية لم تعد ورقة ابتزاز للقوى اليمنية، فلقد كشفت محاولة عقد اجتماع ما يسمى الائتلاف الجنوبي في العاصمة المصرية القاهرة -وهو فصيل محسوب على الرئيس هادي وحلفائه من إخوان اليمن- أن المخابرات المصرية تعي مخاطر الالتفاف على الجنوبيين لذلك منعت الإجراءات التي كان يعتزم حزب الإصلاح الإقدام عليها وتم صد الخطوة وإخمادها.
من الأهمية بمكان التعاطي مع ما أفرزته الحرب من وقائع بما في ذلك القضية الجنوبية والتعامل معها بواقعية سياسية وعدم ترك الفراغات التي من الممكن أن تجد من خلالها القوى الدولية مجالاً للاستقطاب وإغراق الجنوب في صراع مفتوح، خاصة وأن هنالك قوى يمنية شمالية متربصة بحدوث خلل يمكن أن تنفذ منه وتحاول تكرار ما قامت به بعد تحرير عدن عندما دفع حزب الإصلاح بالمئات من عناصر تنظيم داعش والقاعدة نحو المدينة المحررة، عملوا على ضرب الاستقرار الأمني الذي استدعى تشكيل الحزام الأمني لمنع تحويل عدن إلى إمارة إسلامية. ولذلك من الضروري استيعاب الواقع اليمني الحالي، وإدراك أن تأطير القضية الجنوبية عربياً فيه تحقيق للأمن القومي العربي بالدرجة الأولى.