لا يختلف معظم الجنوبيين، إن لم نقل كلهم، بمن فيهم المنضوون تحت سلطة ما بعد حرب 1994م، على أن مصدر معاناتهم منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم هي السلطة التي أفضت إليها تلك الحرب برئاسة وإشراف الرئيس السابق علي عبدالله صالح - الذي لقي مصرعه قبل يومين - وسلطته وحلفائه، منذ تلك الحرب وحتى حرب 2015م- وإن كان بشكل أقل- سواء بواسطة شخصيات جنوبية نفعية مدنية وعسكرية، أو بواسطة حزب «المؤتمر الشعبي العام».
وبالتالي، وبالرغم من وجود حول صالح فئة جنوبية، من خلال شخصيات مستقلة أو حزبية كانت تتكسب بحمايته، إلا أنها لم تر في مقتله خسارة كبيرة عليها، بعد أن أضحى الرجل وادٍ غير ذي زرع بالنسبة لها، وبعد أن وجدت هذه الفئة أو معظمها، في تحالفات حرب 2015م البديل لجَنّـتها المفقودة. و بالتالي، لم يكن مفاجأً أن يمر خبر مقتله عليها وعلى عموم الجنوب مرور الكرام، دون حتى أن تتأسف عليه، بل أن بعضها جنَـــحَ للتشفي بمصير الرجل ونهايته المأسوية المؤلمة، كتعبير عن ولائها الجديد لخلفه هادي و«التحالف». كما لم يخفِ قطاع جماهيري جنوبي كبير، سعادته باختفاء الرجل من المشهد السياسي. مع الإشارة إلى بقاء رموز مؤتمرية جنوبية في صنعاء، وقلة خارجها، ما تزال مخلصة له إلى يوم مقتله.
آخر ارتباطات صالح السياسية بالجنوب كانت عبارة عن شتات وبقايا أشلاء لحزبه «المؤتمر الشعبي العام»، بعد أن التحق العديد من شخصياته الحزبية الجنوبية بركب الرئيس الجديد هادي، الملتحق بدوره بدول «التحالف» والمملكة الثرية تحديداً، ما يعني أن مستقبل الحزب سيتوزع ما بين التلاشي والاستقطاب والبقاء، وهذا الأخير سيكون الأقل حضوراً وعدداً.
آخر محاولات إنعاش «المؤتمر» سياسياً في الجنوب كانت صباح يوم الاثنين الماضي، أي قبل ساعات من مقتل صالح، حين دعت سلطة هادي وحكومة بن دغر، العشرات من المواطنين للتجمّع داخل مقر الحكومة في المعاشيق، قبل أن تمنعهم قوات «الحزام الأمني» من الوصول. هذه الدعوة لإيقاظ «المؤتمر» من غيبوبته الطويلة أتت على عجل لغرض نصرة تحركات رئيس الحزب علي صالح في المركز صنعاء، في ما عُـــرف بالانتفاضة الشعبية بوجه الحوثيين، قبل أن يتمكن هؤلاء من وأدها، إن كان ثمة انتفاضة فعلاً.
وهذه الانعاشة مشابهة لتلك التي قامت بها قيادات جنوبية مؤتمرية لنزع الشرعية الرئاسية الحزبية من الرئيس السابق صالح، لمصلحة الرئيس هادي، قبل أن تبوء بالفشل بالرغم من انحسارها في عدن والجنوب.
وبالمجمل، يمكن القول إن حزب «المؤتمر» في الجنوب، وبحكم تركيبته التنظيمية المبنية على مدماكين رئيسيين لهما عمرٌ مؤقت، وهما اعتماده على رأس الحزب الذي يمثله الرئيس صالح، وعلى بقاء الحزب في السلطة. ولما فقد الحزب سلطته المطلقة بالحكم، وجفّــتْ منابع تمويله، شهد حالة نزوح كبيرة إلى جهات تمويل جديدة، وبعد مقتل رأسه مؤخراً، والذي ظل صمام أمانه وسبب وجوده، فمن المتوقع أن يتلاشى وجوده على الساحة الجنوبية إلى حد كبير، باستثناء جزء منه سيحتاجه الرئيس هادي في الوقت الراهن لعدة أغراض، منها استخدام شرعية «المؤتمر» السياسية وصفته الحزبية في أية تسوية سياسية مرتقبة، وكتلته النيابية التي تشكل الكتلة الأعظم في الرلمان، سيّما وأن هذا البرلمان ما يزال يمثل أحد المؤسسات الشرعية في البلاد بإقرار الجميع، ولم تتجاوزه المرجعيات الأخرى. فضلاً عن حصة «المؤتمر» بالمناصفِـة السياسية مع باقي القوى الأخرى كـ«تكلتل أحزاب المشترك»، التي خُــصّصت وفقاً للمبادرة الخليجية الخاصة بتسوية الأزمة اليمنية الناشئة على خلفية ثورة «الربيع العربي» عام 2011م.
هذا علاوة على حاجة هادي الماسّة، في الوقت الراهن وفي هذا الظرف الذي تمرّ به شرعيته و«التحالف العربي» بعد الأحداث الدراماتيكية التي تعصف بصنعاء، لقيادات وكوادر «المؤتمر» في الجنوب، ضمن ما يحتاجه بشكل أساسي للحزب بعموم اليمن، للاصطفاف خلفه وخلف «التحالف» في وجه الحوثيين، لضربهم من الداخل بالبندقية «المؤتمرية»، والاستفادة من النقمة «المؤتمرية» الطاغية التي تتشكل بين صفوف الحزب على خلفية قتل زعيمه المؤسس.
وبالفعل، فقد دعا هادي بعد 24 ساعة من مقتل صالح، «المؤتمر الشعبي العام» لـ«العمل سوياً ضمن الشرعية لإسقاط عملاء ايران»، في الوقت الذي ما يزال قطاع لا بأس به من قيادات الحزب وكوادره المدنية والعسكرية والتنظيمية تصطف بقوة إلى جانب حركة الحوثيين، حتى بعد مقتل صالح.
وعطفاً على ما تقدّم، يكون غياب صالح عن المشهد السياسي اليمني محدود التأثير جنوباً بحكم محدودية تأثير حزبه جماهيرياً مقارنة مع تأثيره الطاغي في الشمال، ومقارنة مع الأحزاب الأخرى في الجنوب كحزب «الإصلاح» الذي بالرغم من الرفض الذي يواجهه في أوساط النخب الجنوبية، وبين قطاع واسع من الجماهير، لا يزال يجهر بوجوده بحكم طبيعته الأيدلوجية، كأكبر أحزاب الإسلام السياسي حضوراً في الجنوب قبل أن تنافسه مؤخراً التيارات السلفية التي اقتحمت الساحة السياسية الجنوبية بقوة من النافذة العقائدية، بشكل يتعارض مع فلسفتها التاريخية المعهودة التي ترتكز على محور «ضرورة الانصياع المطلق لولي الأمر الحاكم المطلق»، وتحريم الحزبية بكل صورها أو الخوض في أمور السياسة.
*نقلاً عن موقع "العربي"