الصحافة، إلى جانب كونها وسيلة إعلامية لنقل المعلومات والأخبار وتحليلها وتقديمها للجمهور، هي أيضا مدرسة يتتلمذ فيها جلّ المبتدئين، بل وجل العاملين في الوسط الصحفي، حيث إن الصحافة توفر بيئة لصقل المواهب ممن لديهم ميول، وتقوم بتأهيلهم حتى يغدوا من المبرزين في الوسط الصحفي.. هذا حين تكون الصحافة مهنة وتمتلك طاقما مؤهلا وذوي خبرة وكفاءة عاليتين.
ولكن الصحافة، أكانت ورقية أو إلكترونية، صارت مؤخراً، منذ ما بعد حرب 2015، لاسيما في ظل العشوائية وغياب الرقابة، “مهنة من لا مهنة له”، ومادتها الصحفية (نسخ ولصق)، إلا من رحم ربي.. وبالتالي هذا الواقع المؤلم جعل جل الصحف بأنواعها، تكسبك الغباء وتطور فيه الأخطاء، وتقتل فيك الموهبة، بدلاً من أن تكسبك الخبرة وتطوير قدراتك.. وهذا يعود إلى كون هذه الصحفية باتت مجردة من المهنية، وطاقم العمل فيها دخيل على الصحافة، وكل همه هو الابتزاز والارتزاق على حساب المهنة وعلى حساب مستقبل المشتغلين والمتعاقدين معه.
يقول قائل: كيف للصحافة أن تعلمك الغباء وتقتل موهبتك؟ وللإجابة عن هذا سأورد مثالا بسيطا من واقعنا الملموس، حين تكون مبتدئا في مجال الصحافة، وتكتب مادة صحافية (تقرير، استطلاع، تحقيق، خبر، مقال... أو غير ذلك) من الطبيعي أن تكون هذه المادة فيها أخطاء، بل ربما لا تنطبق عليها معايير المادة الصحفية.
فحين ترسل المادة لصحيفة من الصحف العشوائية، يقوم طاقمها بنسخها ولصقها كما هي بما فيها من أخطاء لأن الطاقم غير مؤهل وليست لديه خبرة ومعرفة ليعيد كتابة المادة حسب المعايير المتعارف عليها طبعاً.. وهكذا يستمر الحال، ولا يدرك هذا الصحافي خطورة الأمر، وأن الأخطاء تكبر معاه، ومع مرور الوقت تقتل موهبته.
وعلى العكس من ذلك، فحين تكون الصحيفة مهنية وطاقمها مؤهلا وذي خبرة وكفاءة، فإنها تظهر مادتك بصورة أجمل وتعلمك مكمن أخطائك، ومع مرور الوقت تتجاوز الأخطاء وتصير متمكنا في مهنتك.
مع الأسف، أصبح واقع عدد من الصحف الورقية وجل الصحف الإلكترونية، كما يقولون، “مقبرة ما ترد ميت”، تصريح أيّ كانت جهته ومصدره يُنشر، مادة صحفية تُنشر، وإن كانت غير صالحة للنشر؟.. فهل يدرك هؤلاء أن الاستمرار على هذا النهج هو مقبرة لوسائلهم ومواهب المشتغلين والمتعاقدين معهم؟!.
يكفينا عبث.. لابد من وضع ضوابط ومعايير، فمن النتائج الكارثية هو أن معظم مراسلي الصحافة الخارجية جلهم من خارج الوسط الصحفي المنتمي للقضية الجنوبية.. فخلال الحرب الأخيرة (2015) وبعدها أعطيت الفرصة لكثير من الصحفيين الجنوبيين، ففشل صحفيو النسخ واللصق، ونجح خلافهم، وأضحوا مراسلين وكاتبي تقارير لصحف خارجية.
ومن على منبر “الأيام” الصحيفة الأم، أوجه رسالة قصيرة إلى الوسط الصحفي الجنوبي: إنه وفي ظل هذا الوضع الذي غيب الرقابة والمحاسبة وتفعيل القوانين، فإن أقل شيء يتوجب علينا فعله هو الكتابة والنقد لهذا الواقع الصحفي العشوائي.. فسير الأمور دون نقد وانتقاد وتنبيه، يعني استمرار هذا الوضع الكارثي الذي لا يضر بأصحابه فحسب، بل يضر بالصحافة بشكل عام.