ليس هناك ما هو أسوأ ولا أقذر ولا أقبح من أن تتحول أحزان الناس وتدمير حياتهم ونسف استقرارهم الإنساني والاجتماعي إلى مشاريع استثمارية مربحة عند من فقدوا إنسانيتهم وماتت ضمائرهم وباعوا شرفهم وكرامتهم مقابل الحصول على المال وبعض المكاسب والمنافع الخاصة وغير المشروعة، وبوسائل غير شريفة، وخارج نطاق النظام والقانون، أو في سبيل الاحتفاظ ببعض المناصب والألقاب والصفات المؤقتة، والفارغة المضمون، وعديمة الفعل والفاعلية للدولة والمجتمع، إلا من كون مواقعهم وسلطاتهم تلك مصدرا للنهب والثراء وممرا فسيحا لعبور اللصوص وتسهيل مهمتم الإجرامية بحق الناس ومستقبلهم، ولتحقيق مشاريعهم وأطماعهم المدمرة، وفي إطار شراكة غير مقدسة ودنيئة بين هؤلاء.
فهذه النماذج البشرية غير السوية تجد في الحرب مبتغاها، فهي، وبما ينتج عنها من أزمات خانقة ومآسٍ إنسانية وكوارث وفواجع متعددة الأوجه والأشكال، تنتج معها بذات الوقت، مع الأسف الشديد، هذه النوعية من السماسرة وتجار الحروب، وهم متعددي المواهب والقدرات الشيطانية، وهي تمثل بالنسبة لهم سوقا رائجة وفرصة ثمينة لا تعوض، ومهما كانت تكلفتها الإنسانية التي يدفع ثمنها غيرهم، وكذلك عبر استغلال كل الظروف القاهرة، بما فيها غياب أو ضعف المؤسسات المعنية بحفظ النظام والقانون، وبصورة مقصودة، وشيوع حالة الفوضى، التي يغذونها وبكل الطرق، خدمة لمصالحهم ولصالح المقربين منهم، ومن لف لفهم في دائرة الفساد والإفساد المنظم الذي تجاوز فعله كل الحدود.
ولعل أسوأهم وأكثرهم خطرا ومكرا هم أولئك الذين يشعرون الناس أو يحملونهم على الاعتقاد من خلال الإعلام المضلل بأنهم يعملون في خدمتهم أو الدفاع عن قضاياهم وحقوقهم التي يختزلونها بجيوبهم دون رحمة أو خجل أو وازع من ضمير ولا خوف حتى من الله!!
فأين ذهبت مسؤولية هؤلاء الوطنية والأخلاقية والإنسانية؟! بل والأقبح في سلوك كل هؤلاء أن يزايدوا على بعضهم باسم الحرص على حقوق الناس ومصالح (الوطن) العليا!!
لقد بلغت أوضاع الناس في الجنوب، وفي عدن على وجه الخصوص، إلى درجة لا تطاق ولا تحتمل، بل ويصعب على الناس بعد اليوم أن يصبروا، فقد نفد صبرهم وتضاعفت معاناتهم، وأصبحت حياتهم جحيما في جحيم، بل وأصبحوا يشكون كثيرا بأن هناك مستقبل ينتظرهم بسبب هذا العذاب والحصار غير المعلن عليهم وعلى كل مناحي حياتهم.
فهل بعد كل هذا الذي جرى ويجري هل يمكن للناس أن ينسوا أو يتسامحوا مع من ذاقهم سوء العذاب، وكأن شيئا لم يحصل لهم، بسبب هؤلاء الذين تجاوزت أفعالهم وجرائمهم ما فعلته الحرب العسكرية نفسها، وبكل بشاعتها وفظائعها الرهيبة عبر حرب الخدمات، التي أتقونها جيدا، وأمعنوا في استخدامها، ولم يجد الناس، مع الأسف، الوسيلة المناسبة لإيقافها حتى الآن، كما وجدوا السلاح أثناء حرب تحرير الجنوب، ومع ذلك فالإرادة هي الإرادة وسينتزع الناس حقوقهم انتزاعا بعد كل هذا التمادي.
إن المسؤولية ثابتة على كل من لم يقدر مسؤوليته، ولم يفِ بواجباته وبان، وهؤلاء جميعا قد ساهموا وكانوا شركاء في جريمة حرب الخدمات الحيوية، وأهمها الكهرباء والمياه والصحة، وانعدام الوقود والديزل، ناهيك عن قطع المرتبات والتلاعب بها وبطرق وأشكال عدة، بما فيها الخصومات غير المبررة لمن يحصلون على جزء من مرتباتهم، وجعل الأسعار تشتعل بعد تعويم العملة الفاقدة لقدرتها الشرائية أساسا، لتخنق الناس خنقا، وتقربهم من الموت عبر مجاعة شاملة مصطنعة وغير مسبوقة، ولم يعيشوها يوما في حياتهم، ولذلك فإن الواجب والمسؤولية وإحقاقا للحق ومعاقبة لكل هؤلاء تقتضي عدم التساهل أو التسامح معهم أبدا، حتى يعيدوا الحقوق لأصحابها كاملة وغير منقوصة، ويأخذ القانون مجراه بحقهم إزاء ما أصاب الناس من أفعالهم، ولو بعد حين!