صورة تعبيرية
من تاريخ جنوب الجزيرة العربية
تناولت كثير من المصادر التاريخية معظم الآحداث والنشاطات السياسية والاقتصادية التي سادت منطقة جنوب الجزيرة العربية وعمان مرورا ببحر العرب والقرن الآفريقي والبحر الآحمر أبان الفترة الواقعة من نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر 1800 -1830 م ومن خلالها تتضح العلاقات والممارسات السائدة في حينها بين الاساطيل الغربية الاستعمارية الاوروبية والامريكية التي تتنافس على المصالح ومناطق النفوذ في المنطقة من جانب والكيانات المحلية المعروفة في حينه والوجود الشكلي للدولة العثمانية من الجانب الآخر . ومن هذه الكيانات المحلية نظام محمد علي في مصر ومشايخ الحجاز و سلاطين عمان ونشاطهم المكثف بين منطقة الخليج وشرق أفريقيا عبر بحر العرب وبروز شخصية قوية ذات نفوذ وطموح تجاري وسياسي على السواحل الجنوبية لشبة الجزيرة العربية وجنوب البحر الآحمر مثل السيد محمد بن عقيل السقاف والذي حكم إقليم ظفار قرابة خمسة و عشرين عاما 1804-1829 قبل أن يصبح هذا الاقليم فعليا جزء لايتجزأ من سلطنة عمان الحالية .
وتشير المصادرالتاريخية الى ملاحظتين هامتين .
أولا أن ماكُتب عن أحداث هذه الحقبة وعن السيد محمد بن عقيل السقاف بالذات قد تناقل عن مصدر واحد و هو المصدر الغربي بما فيه من تحامل وتشنيع على كل من يقف في وجه المطامع الإستعمارية في حينه . والملاحظة الثانية وهي المغالطات والزيف الذي ورد برواية مقتل هذه الشخصية على الرغم من قرب هذه الحقبة التاريخية والتي لازالت تروى محليا في صلالة حيث معالم قبر محمد بن عقيل وقصره لاتزال شاهدة على نفسها حتى اليوم .
من هو محمد بن عقيل السقاف؟
ينتسب السيد محمد بن عقيل بن عبدالله بن حسين السقاف الى السادة الآشراف المعروفين بطيب الأصل والنفوذ الديني والإجتماعي في كل من حضرموت وظفار يصل بهم الى النسب الهاشمي الشريف كما هو العرف الإجتماعي في كل من ظفار وحضرموت
وكان لهذا التاجر أو الشيخ أوالسيد كما كان يسمى نفوذا تجاريا وبحريا يمتد من سواحل ظفار الى القرن الافريقي وجنوب البحر الاحمر وكان له أسطول من السفن التجارية الضخمة ويعمل عليها جيش من العبيد الأشِداء ذكر بعض المصادر أن عددهم فاق 500 فردا وكان يتاجر بمواد البناء والبهارات وتجارة الرقيق كما كان العرف في حينه .
وتذكر المصادر أن معظم قباطنة سفنه من الفرنسيين الامر الذي لايروق للإنجليز ونفوذهم في المنطقة أبان النشاطات الاستعمارية لشركة الهند الشرقية . وكانت علاقات السيد محمد بن عقيل بالجيران وعيال العم طيبة . حيث ذكرت بعض المصادر أن السيد محمد بن عقيل كان يزور السلطان سعيد بن سلطان, سلطان عمان الى مسقط ويقضي عنده فترات من الزمن كما ذكرت المصادر أن السيد محمد بن عقيل أهدى سعيد بن سلطان السفينة الضخمة المحضار وكان الاسطول العماني في عهد سعيد بن سلطان قد باشر بأحتلال مدينة صلالة أول ما علم بمقتل السيد محمد بن عقيل لنجدة أخيه عبد الرحمن في ظفار.
وكما ذكرنا ان العلاقة كانت طيبة بين محمد بن عقيل وجيرانه الاشقاء, كان محمد بن عقيل قد أستأجر جزيرة كمران جنوب البحر الاحمر و في رواية أخرى أنه إشتراها من الشريف حمود حاكم أبي عريش وعمل بها الكثير من التحصينات والمخازن الا أن لعنة (فرق تسُد) كانت ولاتزال تعمل عملها حيث عمل الانجليز على الضغط على صاحب أبي عريش للرجوع عن تعامله مع السيد محمد بن عقيل في جزيرة كمران عقابا للثاني على تعاظم نفوذه وتوظيفه للقباطنة الفرنسيين ولم يكتفوا بذلك حيث قاموا بمهاجمة الجزيرة وتحطيم كل مافيها من تحصينات ومخازن ومؤن تابعة لمحمد بن عقيل وطرد عماله منها وفي بعض المصادرتقول بأن ذلك قد تم بموافقة الامام سعود بن عبد العزيز وبتوجيه من آمر الدعوة السعودية في منطقة اللحية .
وقد غضب محمد بن عقيل غضبا شديدا لذلك الغدر الذي تم من الانجليز وبتواطء من الاشقاء الاصدقاء فقام بتجهيز بعضا من سفنه لتعقب السفن الانجليزية وصادف وجود سفينة أمريكية راسية قرب الجزيرة وبها بضائع واستطاع عبيد محمد بن عقيل أستدراج قبطانها للنزول الى الشاطي مع بعض من رجاله حيث تم قتلهم ورميهم في البحر وتم مصادرة السفينة وما فيها أنتقاما لما عمله الانجليز ويبدو أن العبيد قد ظنوا أنها سفينة أنجليزية .
وقد وجد فيها صبي لم يتجاوز العاشرة من العمر جلبوه العبيد مع البضائع الى السيد محمد بن عقيل حيث أحتفظت به زوجته التي لم تنجب لتتبناه حيث أسلم وأصبح إسمه عبد الله المسلماني والذي لاتزال تعرف ذريته ب بيت المسلماني في ظفارحتى اليوم . وهنا تظهر قوة السيد محمد بن عقيل وسطوته ووطنيته من خلال تحديه للآساطيل الغربية ومقارعتها ومحاولته التنسيق والتعامل الآخوي مع جيرانه وأشقائه شرقا الى عمان وغربا الى الحجاز وهذا ماجعل المورخين الغربيين يسمّونه تارة بالقرصان و أخرى بالمغامر ويصفونه بأبشع الاوصاف.
موقعة وادي نحيز
كان محمد بن عقيل يدرك أن ضمان ولاء قبائل القرا لمن سبقوه الى حكم ظفار ليس بالامر السهل وكان يظن أنه يمكن تحقيق ذلك بالمصاهرة فتزوج عند بيت قطن وهي قبيلة من القرا معروفه تسكن جبال ظفار الوسطى في وادي نحيز وما حولها حيث تزوج على سلطانة بنت سعيد بن بحور بن قطن ولكن الاحداث تأتي بعكس ما يسُر حيث تسؤ العلاقة بين محمد بن عقيل وبعض قبائل بيت محاديتا من القرا على أثر مقتل أحد عبيد محمد بن عقيل إذ يأمر بملاحقة المهاجمين الى الجربيب وهو السهل شمال مدينة صلالة حيث قتل أحد المهاجمين وهو من القرا الآمر الذي أغاض القرا فتحالفوا على قتل محمد بن عقيل ومرت فترة ساد فيها الهدوء ولم تتطور الاحداث سلباً . وفي يوما زار فيها مسلم بن سعيد بن بحور بن قطن شقيقته سلطانة وقابل صهره محمد بن عقيل في قصره في صلالة ، أعرب محمد بن عقيل لصهره عن رغبته في الطلوع في نزهة الى وادي نحيز خصوصا أن الوادي جميل جدا بعد أمطار الخريف فهو لايبعد كثيرا عن صلالة بأكثر من 20 كيلو ولكن مسلم بن بحور تفاجأ بهذا الطلب وحاول الإ عتذار وتحجج بضرورة العودة الى الجبل لأمر مُلح خصوصا وهو يعلم بغيض القرا على محمد بن عقيل . وصادف أن كان بحضرة محمد بن عقيل في حينه أحد أصدقائه من قبيلة الكثيري وإسمه بن صمديد وهو من قبيلة معروفة بالمروة والشجاعة فقال بن صمديد لمحمد بن عقيل أنا أعرف وادي نحيز وإذا رغبت بزيارتها رافقتك إليها . وبعد أيام طلع محمد بن عقيل على كوكبة من الخيول يرافقه بن صمديد وبعض العبيد وحين وصلوا الى أسفل الوادي وقد أدركهم الليل حطو الرحال في مكان يسمى أيعر حيث بعث محمد بن عقيل لصهره بن بحور من قريته في المرتفعات ليرافقهم لبقية الرحلة فلما وصلهم بن بحور في صبيحة اليوم التالي ، انطلق الركب الى منطقة وسط الوادي تسمى أوطح حيث السهل المنبسط والاشجار العالية ومواقع السكان من حول الوادي وأفترشوا العشب وحطوا الرحال وجلس محمد بن عقيل ورفيقيه مسلم بن سعيد بن بحور وبن صمديد تحت شجرة عِلْب عالية وواسعة جدا تتوسط غابة من الاشجار العالية التي تكثر في وادي نحيز وكان الخدام منشغلين بترتيب متاعهم وربط خيولهم. وسبق أن لاحظت ركبهم خادمة بيت عرموم كانت تحش الاعشاب من الوادي عند مرورهم بقربها فخافت وأستنكرت المنظر الغير مألوف في أرياف ظفار من الخيول ولباس هذه الشخصية المهيبة خصوصا أن الخيول كانت غير موجودة في ظفار الى عهد قريب . فأنطلقت الخادمة الى الناس تستغيث وتصرخ أن قوما غرب قد غزوا الوادي. فقام أحمد بن محاد بن عرموم بن الشوري وهو رجل قوي الشخصية ومن أسرة وجيهة في قبيلة بيت قطن يرافقه ثلاثة من أسرته الى حيث حط محمد بن عقيل . فتقول الرواية ؛ أن بن عرموم ورفاقه لما أقبلوا الى محمد بن عقيل نادوا على مسلم بن بحور على بعد خطوات قبل أن يصلوا أو يسلموا فلما جاءهم بن بحور سألوه من هذا الرجل فقال لهم هذا محمد بن عقيل فسألوه .هل هو معك؟ بمعنى أنت جبته ؟ فقال: بن بحور: عارضتهم بالطريق. فلم يمهله بن عرموم للمزيد من التفاهم أو التفسير فهجم بن عرموم بالسيف على محمد بن عقيل وضربه ثلاث ضربات بالغة وهجم بقية من كان مع بن عرموم على الخيول فقطعوا عليها الحبال حتى لايتمكن القوم من الهرب فأندلعت المعركة بين مسلم بن سعيد بن بحور وبيت عرموم حيث لحق بن بحور بالمهاجمين وقتل أحمد بن عرموم وولى من كان معه هاربين إذ لم يكن في العرف القبلي أي خيار أمام بن بحور سواء الثأر والنقاء لصهره ورفيقه الذي قتل في وجهه وإن كان القاتل من عصبته . بعدها حمل بن بحور ومن كان معه محمد بن عقيل ململمين جراحه على الخيول عائدين الى صلالة حيث توفى محمد بن عقيل كما تقول الرواية متأثرا بجراحه في اليوم الثاني في صلالة , وبيقت الفتنة القبلية قائمة جرّت بعدها ثلاثة مقاتيل بين بيت بحور وبيت صمديد ولم تخمد جذوتها الا بعد 30 سنة . وهكذا كانت بهذه البساطة نهاية هذه الشخصية القوية المؤثرة في حقبتها الزمنية تلك على ما شابها من تحريف وتهويل وتلفيق في عدة مصادر ينقصها تحري حتى المنطق البسيط في تمييز الكذب من الصدق.
وما حملنا على كتابة هذه النبذة التاريخية هو توضيح الحقيقة وتصحيح المغالطات التي وردت في بعض المصادر الغير دقيقة حول هذة الشخصية وحقبتها التاريخية.
المصادر
كتاب (قالو عن ظفار) للكاتب عبداللة صواخرون.
منتدى الأشراف.
كتابات المستشرقين عن جنوب الجزيرة.
الروايات المحلية في ظفار.
*- منتدى سبلة عمان