الجنوب العربي .. بين صراع الماضي و آمال المستقبل

2017-07-05 20:55

 

لا شيء يسلب الناس كرامتهم كما تفعل الصراعات المسلحة التي يتم الفرز فيها على أساس مناطقي حيث تُنشب تلك الصراعات مخالبها في أكتاف الوطن و تقوض أركانه و تسلبه مقومات البقاء و النماء و تدمر مرافقه و خدماته.. و تسلب المواطن حياته و حياة أحبابه تاركة إياهم أشلاء ممزقة و أشتاتا متفرقة في أصقاع الأرض يبكون ذكرياتهم وماضيهم في بلادهم.

وعندما نقرأ التاريخ نجد الأمم الحية قد تجاوزت نكباتها ومآسيها وتركت آلام ماضيها خلف ظهرها وفرغت نفسها لبناء مستقبل شعوبها.

 

فقد تجاوز اليابانيون مآسي هيروشيما وناجازاكي التي محتها القنابل النووية الأمريكية وتجاوز الألمان سقوط الرايخ الثالث وحطموا جدار برلين وأعادوا وحدة ألمانيا التي دمرتها الحرب العالمية الثانية وأقامت أوربا الاتحاد الأوربي على أشلائها فماذا فعلنا نحن في بلادنا ؟,

 

في البداية كنا على الطريق الصحيح عندما كان الجنوب العربي مقسما إلى إمارات وسلطنات  قبلت طوعاً الدخول في اتحاد فيدرالي تحت مسمى "الجنوب العربي" ما عدا سلطنات حضرموت وشكلت تلك الإمارات الجنوبية وحدة فيدرالية منذ عام 1959م حتى العام 1967م.

رغم أن تلك الأمارات الجنوبية قد عاشت ثلاث قرون قبل ذلك وهي مقسمة ومجزئة وكان للاتحاد برلمان حر وصحافة حرة وكانت مكاتب الوزراء مفتوحة للمواطنين وكان السلاطين يتعرضون للسخرية والنقد اللاذع من مواطنيهم دون عقاب أو تكميم للأفواه وكان الجميع سواسية في الاتحاد لا تبنى مدرسة أو مستشفى في أي إمارة إلّا ويبنى مثلها في كافة الإمارات .. ورئاسة المجلس الاتحادي الأعلى كانت دورية يتساوى فيها الجميع.

 

منذ الخمسينات كان لدينا جيش الليوي ويعد من أفضل جيوش الجزيرة العربية ورديفه الحرس الوطني الاتحادي وكذلك الحرس القبلي للإمارات وكانت عدن ثالث ميناء في العالم وتملك أحدث إدارة في الشرق الأوسط.. وفيها مستشفى "الملكة" سعة 550 سريراً يقصده المرضى من دول الخليج العربي واليمن والجنوب العربي ومجهز بأحدث تقنيات الطب الحديث آنذاك.

 

كانت عدن وإمارات الجنوب العربي تعيش فترة رخاء وازدهار وأمان حتى قرع صوت العرب طبوله وعلى وقعها ثارت العربان على حكامها وأنظمتها بدعوى "الحرية" وطرد الاستعمار ومنها ثورة 26 سبتمبر عام 1962م التي انقسم فيها اليمن إلى فريقين ملكي وجمهوري وتدخلت مصر بجيوشها واستمرت الحرب الضروس 7 سنوات عجاف وتم تصدير الثورة إلى الجنوب رغم أن بريطانيا أعلنت عن رحيلها فماذا كانت النتيجة؟

استبدلنا الأمن والأمان بالخوف : رحل الاستعمار وترك لنا البلاد فماذا فعلنا فيها؟

 

قوضنا كل شيء تحت شعار "برع يا استعمار" و "كل الشعب قومية" , "ولا صوت يعلو فوق صوت الحزب" تصفيات جسدية لنقابات العمال والقيادات الوطنية وتآمر الانجليز مع المراهقين في الجنوب المتعطشين للسلطة والدماء وقاموا بقذف حكام الجنوب خارج الحدود وبدأ العد التنازلي للتراجع في كافة المجالات وأصبح كل انجاز أو معلم حضاري من مخلفات الاستعمار والرجعية.. وسلبت هوية الجنوب العربي مقابل يمننته.

وعندما انتهى الرفاق من تمزيق النسيج الاجتماعي وسحق الهوية الوطنية بدئوا بالتصفيات الجسدية لفرسان القبائل وسائر الشرفاء من أبناء الوطن وكان ضحاياهم بالآلاف تحت وقع الطبول والأناشيد والزوامل الثورية وأمموا كل شيء في البلاد وامتلأت السجون, وكانت تتم تصفيتهم بالدور ..وانتشرت الموبقات في البلاد وطال القمع والخوف الإنسان والحيوان والجماد.. ثم بدأت "الكلبة " تأكل عيالها فانقلبوا على قحطان و فيصل الشعبي عام 1969م وفي تلك الفترة كان الرفاق قد أدمنوا القتل حتى أصبحت لديهم طقوس موسمية وكلمات سر يتفاهمون بها مثل "شي عشاء معنا الليلة؟" يموت فيها عشرات الأبرياء حتى من رفاقهم ويتلذذون بقتلهم وسحلهم ثم فجروا طائرة الدبلوماسيين وعددهم 22 رجلاً فوق حضرموت في ابريل عام 1973م ثم توالت التصفيات فطالت قيادات الجيش والأمن والكفاءات الوطنية ثم انقلبوا على سالمين وشلته عام 1978م ثم طالت التصفيات الجميع في 13 يناير عام 1986م وكان الصراع قبلي مناطقي بامتياز بين أبين وشبوة من جهة ولحج والضالع من جهة أخرى.

 

وتعمق الشرخ المناطقي فكانت تتم التصفيات والإقصاء في أحسن الأحوال على المناطقية بسؤال واحد "من أي منطقة أنت؟"

وتغول الهاجس المناطقي تحت عباءتها الماركسية وعلى أساسه يتم الفرز والهوية وسلبت حتى أسماء المناطق التاريخية وحل محلها الأرقام من واحد إلى ستة حتى ألفها جيل كامل وتعود عليها وطمست هويتها التاريخية والوطنية وقذف دعاة الشعارات العاطفية بالجنوب في جحيم وحدة اندماجية غير متجانسة مع نظام عشائري يحكم بعقلية القرون الوسطى وبذلك دمروا ما لم يتم تدميره في الجنوب في الغزو الشمالي الأول عام 1994م ثم الاجتياح الثاني عام 2015م.

 

و بعد كل هذا الدمار يطرح سؤال واحد نفسه علينا جميعاً : متى نتجاوز ركام الحقد والمآسي والمناطقية و الحزبية، ونطوي صفحات الماضي ، ونعمل من أجل وطن واحد ونبني الجنوب على شكل وحدة فيدرالية بمحافظاتها الحالية ينعم فيها الجنوب بالاستقلال والحرية؟

والسؤال الأصعب هو: هل نستطيع تجاوز تلك المعوقات وتأسيس الجنوب العربي تحت راية واحدة يتساوى فيها الجميع؟

وهل استفدنا من العبر والدروس التي دمرتنا وهي نتاج أيدينا منذ الاستقلال حتى اليوم, وهل نقدر على تجاوزها؟