لقد أصابتني الدهشة و أنا أقرأ ما قاله محافظ عدن الجديد عبد العزيز المفلحي عن منعه استخدام بعض النكت و المفردات الساخرة التي يتداولها الناس في الجنوب مثل كلمة " دحباش " و "دحباشي" وغيرها من النكت الساخرة التي يرددها الناس في حياتهم اليومية و لعمري انها بداية غير موفقة يا سيادة المحافظ .. فنحن لا نعيش في عصر "قراقوش" و الحاكم بأمر الله ..!
و عندما تشتد اوجاع الناس و تطحنهم الحروب و الأزمات يهربون عادة الى نسج النكات التي تضحكهم و تخفف من معاناتهم و آلامهم و النكتة متنفس نقدي ساخر فيه شيء من الخفة و الخيال و الجمال.
و كنت أتمنى من المحافظ الجديد أن يتناول في تصريحاته الأولية استعداده لتقبل النقد و شكاوي المواطنين و حل مشاكلهم و خاصة عدن المدينة الجميلة التي أصبحت شبه خرابه لانعدام الخدمات الأساسية فيها من كهرباء و مياه و صرف صحي و مشتقات نفطية و توفير السلع الأساسية و كان حري بالمحافظ المفلحي أن يبدأ عمله بتلمس هموم المواطن في عدن و متابعة الملفات التي عجزت حكومة الشرعية عن حلها مثل : معالجة الجرحى , المرتبات, الصحة, إعادة المهجرين إلى بيوتهم, إعادة اعمار ما خربته الحرب, تعويض المواطنين, أو كحد أدنى رفع تقارير ميدانية عن معاناتهم, إضافة الى ترسيخ الأمن و محاربة الإرهاب و اجتثاث الفساد المالي و الادراي في عدن ..
اما ان يبدأ بالتهديد و الوعيد لشعب يستخدم النكتة لتخفيف همومه و معاناته فتلك لعمري نظرة ضيقة و قاصرة الهدف منها استرضاء بعض الأطراف في حكومة الشرعية و حسن نوايا وتقديم فروض ولاء و طاعة لهم ..
و هذا يعني ان ولاءه للحكومة و طاقمها و ليس لخدمة الشعب الذي عُيّن من أجله !!
و هو مخطئ ان كان يعتقد انه سيكمم افواه الناس من تداول النكت فهم من قهرهم و آلامهم اليوم يسخرون حتى من أنفسهم !!
و في اليمن عامة و عندما تشتد أوجاع الناس و تطحنهم الأزمات و الحروب كما هو الحال في أيامنا هذه يهربون عادة الى نسج النكات التي تضحكهم و تخفف معاناتهم !!
و الشعب اليمني رغم قسوة الطبيعة الجبلية الوعرة و عيشه في الجبال لكنه شعب مرح و تتجلى نكته السياسية في ظل الحرب اليمنية و تعالج سخط الناس على الأوضاع العامة و فوضى الحياة السياسية ..!
و النكتة مفردات بسيطة مكثفة ساخرة و هي أحد الثوابت الثقافية لبعض المجتمعات انتجها عقل جمعي شعبي ..
و النكتة رد فعل طبيعي قوي و فعّال ضد كثير من المصائب التي يعاني منها الإنسان فيرددها على شكل نكتة ليتخلص تدريجياً من حالة الألم التي يعيشها !
و لم يستطع اعتى الحكّام العَرب و اشدهم بطشا ً من تكميم أفواه الناس, ففي سوريا صارت النكتة السياسية في الثمانينات هي الأكثر تداولا و كانت تعبر عن المرحلة و توثق الانتهاكات و التغييرات السياسية و منها نكتة تحكي كيف أوقف شرطي مرور سيارة حافظ الأسد و قال له الأسد:
" أنا الرئيس حافظ الأسد يا ابني ", لكن الشرطي أصر على الاطلاع على رخصته و أوراق السيارة, و تشاجر مع الرئيس حتى أنتبه رئيس الدورية و جاء راكضا ً و أفسح الطريق للرئيس و وبخ الشرطي و قال له :
" شو بدك تخرب بيتنا ؟, ما بتعرف انو هاد أخوه لرفعت الأسد؟"
في إشارة الى سيطرة رفعت الكاملة على أجهزة الدولة في ذلك الوقت !
و في مصر كثرت النكت في عهد الرئيس عبد الناصر خاصة بعد نكسة 1967م و كان لها الأثر الكبير في ردات فعله و منها :
"عُثر على تمثال احتار علماء الآثار في تحديد أصله , فاقترح جمال عبد الناصر إرساله الى المخابرات و صلاح نصر لكشف غموضه, و بعد ساعات قالوا له:
لقد تأكدنا أنه رمسيس الثاني , فقال لهم : كيف تأكدتم ؟
قالوا : اعترف يا فندم !
و في الجنوب كان المواطن الجنوبي في عهد الحزب الاشتراكي القاسي كان يرفع شعار :
"تخفيض الرواتب واجب" و في ظل المؤتمر :
" اللي ما يغتني اليوم ما يشبع بكره"
و في ظل حزب الإصلاح يرفع شعار:
" من ربى دقنته حافظ على وظيفته "
اما في ظل الحوثيين فأصبح شعار المواطن:
"احفظ الصرخة الحديثة .. تأمن اللجان الشعبية "
و اليمنيون يقاومون أزماتهم بصبر و جلد في ظل انهيار السياسات الأمنية و الاقتصادية و المعيشية و الحرب التي تطحنهم و يهربون من واقعهم المر بالنكت !!
و حتى صالح أخذ نصيبه من نكت أهل ذمار ففي عام 1993م زار المدينة و كانت أزمة شح التموين الغذائي و ارتفاع أسعارها !
و استقبلوه بيافطة في مدخل المدينة كُتب عليها :
" أهلاً بالرئيس اليمني في ذمار "
و هتف المستقبلون " يا رئيسنا يا مدبر و ين السكر و ين البر"
و أخيراً و ليس أخراً أقول لك يا محافظ عدن لا تغتر بكرسي الحلاق الذي تربعت عليه فقد سبقك من هو مثلك و أفضل منك و تركوه طوعاً أو كرهاً .. و الأجدر بك ان تهتم بعملك فهناك ملفات صعبة تنتظرك و مصداقيتك على المحك في إنجازها أو فشلك فيها .!!
و أهل عدن ينتظرون من العمل المُخلص و الجاد و المثمر .. يريدون إنجازات , يريدون أعمالاً و ليس أقوالاً..!!ّ
و يجب أن تتحلى بروح رياضية عالية و سعة صدر للمواطن فستسمع في قادم الأيام النكتة و الطرفة و السخرية حتى على نفسك .. فتحمّل و اصبر و رويدك لا تُشهر سيفك على أهل عدن .. و لم يسلم من ألسنة المواطن العربي من هو أعتى قوة منك!!