مع انبثاق المشروع القومي العربي وبروز أهم ملامحه في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي وعندما اخذ ينمو ويتصاعد بتفجر الثورات العربية في المشرق العربي في مصر واليمن وغيرهما كانت ثورة 26 سبتمبر عام 1962م جزء لا يتجزأ من ذلك المشروع القومي العربي وكان من أهدافها الأساسية إسقاط الحكم الإمامي وارثه التاريخي الثقيل الذي امتد لأكثر من ألف عام !!
واستبشر الشعب اليمني خيرا بتلك الثورة التي قامت من اجل محاربة الإقطاع والظلم والتخلف وفي سبيل ذلك خاض الشعب اليمني صراعا مريرا مع القوى التقليدية المرتبطة بحكم الإمام وانقسم إلى معسكرين جمهوري وملكي وخاض حربا ضروسا طوال سبع سنوات عجاف انتهت بانتصار قوى الثورة .
ورغم ذلك كله فقد سقط المشروع القومي العربي سقوطا مدويا في نكسة عام 1967م وانهارت معه أحلام الجماهير العربية بما في ذلك اليمن وعادت القوى التقليدية المتخلفة في اليمن وتحت رايات الثورة والجمهورية وشعاراتها وأحكمت قبضتها على مؤسسات الدولة وتحالفت القوى القبلية مع السلطة العسكرية وتشبثت بالسلطة وبدأت تحقق مكاسب سياسية واقتصادية لتتحول تدريجيا إلى طبقة جديدة تمارس هيمنتها بما تملك من قوات عسكرية وقوى قبلية متحالفة لتحول دون تحقيق أهداف وطموحات جماهير الشعب في ا لتنمية والتطور!!
وفرضت دكتاتورية استبدادية بدعوى الحفاظ على الأمن !!
وكان القمع يطال الطبقات الفقيرة من الشعب فقط واحتضنت تلك القوى المتنفذة القوى الاجتماعية المكونة من كبار الملاك وأركان الإدارة البيروقراطية والعسكر والقوى القبلية الطائفية والجماعات الدينية.
وجرى تهميش الطبقات الفقيرة والمتوسطة من عمال وفلاحين ومثقفين وأحزاب سياسية وقامت بتزييف الوعي الوطني وكبت الحريات وخنق الديمقراطية واحتكار السلطة طوال 33 عاما وفي هذا المناخ الفاسد صعدت التيارات العسكرية والطبقية المتنفذة اقتصاديا وسياسيا وهيمنت على مقدرات الشعب اليمني (شمالا)!!
وفي الجنوب انهار المشروع الاشتراكي وسقطت الماركسية سقوطا مدويا في عقر دارها (روسيا) ولم يكن أمام الرفاق في عدن الذين حكموا الجنوب بالنار والحديد في الفترة من (1967م – 1990م) مرورا بإقصاء وملاحقة كل القوى السياسية الجنوبية واحتكروا السلطة لأنفسهم طوال حكمهم وسرعان ما انهار نظامهم الاشتراكي بتصفيات دموية في 13 يناير عام 1986م !!
وعندما تبين فشل تجربتهم نصحهم رفاقهم في موسكو بالوحدة مع (اليمن) وكعادتهم أعماهم حبهم للسلطة وسارعوا دون تفكير للارتماء في حضن نظام عشائري متخلف في صنعاء وسلموا الدولة بكاملها لتماسيح المؤتمر والإصلاح الذين قاموا خلال 3 سنوات فقط بإحكام قبضتهم على الجنوب وادخلوه في حظيرتهم ودمروه في حرب عام 1994م !!
ومارسوا أبشع الجرائم في حق شعب الجنوب حيث أقصوا أبناءه وطردوهم من وظائفهم وصادروا النفط والغاز والشركات والأراضي وكل المؤسسات والشركات في الجنوب وقاوم الشعب في الجنوب تلك الممارسات القمعية ورفع شعارات الانفصال !!
وفي فبراير 2011م تفجرت ثورة الشباب في اليمن لتصحيح مسار الثورة إلا أنها أجهضت!!
وفشلت مخرجات الحوار الوطني وغيرها من المبادرات لإخراج اليمن من المأزق مما أعاد حكم العسكر من جديد بزعامة المخلوع صالح بعد أن غير قواعد اللعبة وتحالف مع أعداء الأمس( الحركة الحوثية ) التي خدعت الجماهير برفع شعارات مطلبية لتختطف الثورة !!
وسرعان ما أحكمت تلك القوى قبضتها على المشهد السياسي شمالا وجنوبا وطوال تلك السنين وهي تشن حربا ضروسا على كامل التراب اليمني لتثبيت قبضتها عليه وتسلطها بدعم إقليمي وبمشاريع طائفية تهدد الجار والدار معا !!!
وأصبحت مرتهنة لتلك القوى الإقليمية وأدخلت الوطن بأسره في مأزق صراع البقاء والارتهان بين الحياة والموت!! .
ورغم دحر قوات الانقلابيين بالمحافظات الجنوبية إلا من بعض الجيوب الصغيرة فلازال الخطر قائما في حين بقيت جيوش الأحمر والمقدشي تراوح مكانها في جبهات نهم البقع مع استدراج المقاومة الوطنية وبعض الألوية الجنوبية للزج بهم في لهيب المعارك في جبهات الساحل الغربي والبقع وكتاف مستغلة حماسهم واندفاعهم في حين بقيت تلك القوى في أطراف الصحراء تتربص بمحافظات الجنوب للإنقضاض عليها بالتزامن مع القوى الإنقلابية بحجة الحفاظ على الوحدة !!!.
ويمكن أن نجمل القول بما يلي:
إن مأزق الحكم في اليمن يواجه انقسامات خطيرة وتشظيات عديدة على ارض الواقع تتمثل في:
- محاولة المخلوع صالح العودة للمشهد السياسي من خلال المؤسسة العسكرية وتركيبتها القبلية وأدواتها الحزبية ممثلة في المؤتمر الشعبي العام .
- استقوا الحركة الحوثية بالدعم الإيراني إقليميا والميليشيات التابعة لها محليا وفرض نفسها على المشهد اليمني .
- تربص حزب الإصلاح مع كافة تياراته الإرهابية واستعداده للتحالف مع الفريق الأقوى.
- مطالبة الجنوب بالانفصال نهائيا رغم تشرذم قواه السياسية وبروز مشاريع مناطقية ضيقة تهدد كيانه وتبرز ضعفه وهشاشته لاستعادة دولته .
- اليمن الأسفل (إب – تعز)-- تهامة – مأرب – والبيضاء والبحث عن مساحة مقبولة لهم رغم قلتها في أي تسوية سياسية قادمة.
وأخيرا فإن كل فريق يتربص بالآخر وقد يطول أمد الصراع مع اختلاف الأهداف والنوايا وهذا كله سيحول اليمن كله إلى دولة فاشلة يسيطر عليها تجار الحروب وأصحاب المشاريع الصغيرة والضمائر الميتة.