عن العروبة المزدحمة.. الربيع الفائت و‘‘قنبلة باب الخلق‘‘

2017-02-27 07:26

 

كتبت إحدى الناشطات البلوشيات التغريدة التالية: «‏إن الذي يعترف بعروبة جيبوتي والصومال وجزر القمر وإريتريا يجب أن لا يجد غضاضة في الاعتراف بعروبة البلوش وبحقوقهم في أرضهم.

وبغض النظر عن أن قولاً كهذا يعبر عن مزاج شعبي، أو أنه يعكس حالات فردية، فإن مثله سيثير الفضول لدى القارئ العربي، ليتعرف بشكل مفصل على تلك الأقاليم ومحتواها الديموغرافي وتاريخها، باعتبارها امتدادات حيوية وفقاً لثقافة المصالح الاستراتيجية في العصر الحديث.

 

ستجد عزيزي القارئ هلالاً أرضياً ضخماً يمتد من كردستان ويمر بالأحواز (عربستان) ثم ينعطف شرقاً نحو بلوشستان بأجزائها، حيث تمثل ألـ»ستانتان» الأخيرتان سقفاً قاريّاً لمياه الخليج العربي وبحر العرب، وتنفتح من الناحية الشمالية والشمالية الشرقية على دول كبيرة ومركزية. ولهما تاريخ طويل وتداخل حضاري عميق مع الشعوب العربية، خاصة في الجزيرة العربية والعراق، وما تزال شعوبها تبحث عن جذور هويتها وامتداداتها الحضارية، بل إن شعب الأحواز الذي يعتبر جزءا أصيلا من الشعب العربي يشهد حراكا نضاليا قويا لاستعادة عروبته ولنيل حريته من التبعية لإيران، التي ضمت إقليمه إلى أراضيها منذ الربع الأول من القرن الماضي.

 

لكن الذي ستحركه مثل تلك التغريدة/الصرخة في فضاء الميديا لن يلبث طويلاً في التفكير حتى يرتد إلى نفسه مكبوحاً وحسيراً، خاصة حين يفترسه السؤال الأكبر: وماذا فعلت العروبة لفلسطين، حتى تفكر بما هو خارج حدودها الرسمية المتحركة؟

 

عروبة القرن الواحد والعشرين لا تحتمل من الناحية العملية، أي إضافات جديدة لأنها مزدحمة بماضيها وبمآلاتها، فهي لم تعد تمثل سوى بقايا من وقود معنوي حرك الهمم بصورة خاصة أثناء مرحلة الهيمنة الكولونيالية المباشرة، ثم استقرت، مع قيام الدولة الوطنية، في الوعي كحالة أيديولوجية مرتبطة بالمكون العربي من الخليج إلى المحيط وكانت حاملة لطموحات قومية وحدوية مستمدة مشروعيتها من جذوره التاريخية والثقافية واللغوية. لكنها في ظل غياب عوامل كثيرة سرعان ما تحولت إلى مادة ووسيلة للبروباغندا الداخلية، بعد أن انكفأت الدولة الوطنية على داخلها واستنفدت طاقاتها في بناء وتعظيم الأنظمة الديكتاتورية. والآن بعد أن شاخت تلك الأنظمة وأنتجت هذا الوضع الكارثي الذي يعيشه العرب حالياً، فقد أصبحت عروبة العرب معها مجرد موروث نظري يدخل في أدبيات بعض التيارات القومية، ويشهد على نماذج حزبية حاكمة قادت شعوبها إلى كوارث ما تزال سماوات المنطقة تختنق بدخانها.

 

ولهذا فإن أي تفكير في إيجاد علاقة متميزة وقوية مع شعوب تفخر بانتماءاتها العرقية والثقافية والدينية للحضارة العربية الإسلامية، كالأحواز والبلوش مثلاً، أمر يظل حيويا، لكنه في الوقت الحاضر ومن ناحية عملية لا يتعدى كونه فائضا عن الحاجة الإستراتيجية التي تراجعت حتى أصبحت تعبر عن حالة دفاعية تتوج سلسلة من الإخفاقات والتراجعات الخطيرة التي أصابت النظام العربي منذ عقود. ومع ذلك يجب ألا يتوقف الأمر عند هذه النقطة، لأن الضرورة تقتضي أن تكون هناك مراكز إقليمية وعربية متخصصة لدراسة ومتابعة الحراك الشعبي التواق للحرية، في أقاليم الأحواز وبلوشستان (الإيرانية خاصة) وانعكاساتها الداخلية والخارجية، لأنها ربما تأتي لحظة تاريخية تبادر فيها تلك الشعوب إلى استنهاض إراداتها الداخلية بصورة لا توفر أي خيار أمام الدول العربية عدا مد الجسور الحقيقية والقوية معها.

 

لقد مثل «الربيع العربي» محطة للتعبير عن حاجة العرب في تجديد حياتهم بصورة شمولية، تدفع كل شيء نحو التغيير، من التفكير الفردي إلى جوهر الأنظمة. ولأول مرة عبرت الجماهير العربية عن حالة واحدة ومتطابقة، انعكست في تلاقح المسارات بصورة عفوية.. وامتدت كالحرائق ثورات الغضب، وفاجأت العالم، بل كادت أن تمنحه ديناميكية جديدة للتغيير حتى في بلدان قطعت اشواطاً كبيرة في النماء والاستقرار. لكن الربيع أصبح بمقاييس الفصول «فائتا» بسبب تداعياته المؤسفة. ولا يستطيع أحد أن يفترض بأن تلك الثورات العربية تتقمص فكرة «العَود الأبدي» في الفرضية النيتشوية، وتتكرر بطرق ما، فالمشهد يحتاج إلى علماء في السياسة والاجتماع والتاريخ وإلى فلاسفة، لكي يقيموا ماذا حصل وما يمكن أن يفرزه في الحاضر والمستقبل القريب والبعيد. ومع أن هناك إضاءات واجتهادات لا حصر لها في تفسير تداعيات الربيع العربي، لكن منطق التفاعلات المتسلسلة والارتدادات الطبيعية للأحداث الكبيرة يبرر الحاجة للانتظار حتى يأخذ كل شيء مداه الطبيعي.

 

الواقع العربي وصل إلى درجة عالية من التعقيد، احتشدت بداخله كل ألوان الصراعات القديمة والحديثة، وكأن الأرض أخرجت إلى السطح أثقالها المخبوءة دفعة واحدة.. مضافا إليها التدخلات الخارجية بأطماعها وثاراتها المختلفة. حتى أن مواطن الشرق الأوسط، المتوسط الثقافة، وفي لحظة ضياع، يكاد أن يتماهى مع مقاربة بطل الدراما الاجتماعية المصرية «مسلسل باب الخلق» وهو يصدّر فكرة «نسف كل شيء وإعادة البناء من الأول». وكانت «القنبلة» التي اقترحها في ذروة سرديته المتلفزة مفاجأة صادمة، ربما أخذت طابعا مجازيا، لكنها حملت دلالات مباشرة لحالة اليأس من الواقع والنظام معاً. كما كانت في الوقت ذاته تعبيرا مكثفا وجارحا أوصل الفكرة المدوية إلى وعي السامعين، كدالّة لشكل النهاية التي لا نهاية بعدها، وهي أن المجتمع لم يعد يحتمل واقع المرئيات الحالية وما وراءها، ولم يعد مؤهلا لأن يواصل الحياة بمفاهيمها الحضارية داخل هذه البيئة الفاسدة.

 

إذن على الناشطة البلوشية ومعها نظيراتها من عربستان ومناطق أخرى، ألا تنتظر حتى ترسو السفن العربية الأصيلة على مياه الخليج وبحر العرب والمتوسط وتصبح شريكة كاملة في السيادة على البحار المحيطة بجغرافيتها الطبيعية، بل عليها أن تواصل مع الشعوب القابعة عند طرف الهضبة الإيرانية العمل، من أجل حريتها دون أن تنتظر أحدا، فما تزال الشعوب العربية أيضاً تبحث عن مستقبل حقيقي تلتقي عنده طموحات الجميع في المنطقة وتفخر حينها كل الشعوب بروابطها وأصالتها وبحاضرها ومستقبلها وتعود الحقوق لأصحابها والفروع لأصولها.

 

*- كاتب سياسي جنوبي – خبير نفطي – كندا