أيها المسلمون: إن كنتم تعتقدون أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق المسيحيين إلا ليموتوا ذبحاً بالسيوف وقصعاً بالرّماح، وحرقاً بالنيران، فقد أسأتم بربكم ظناً، وأنكرتم عليه حكمته في أفعاله، وتدبيره في شؤونه وأعماله، وأنزلتموه منزلة العابث اللاعب الذي يبنى البناء ليهدمه، ويزرع الزرع ليحرقه، ويخيط الثوب ليمزقه، وينظم العقد ليبدده...
لم يزل الله سبحانه وتعالى مذ كان الإنسان نطفة في رحم أمه يتعهده بعطفه وحنانه، ويمدّه برحمته وإحسانه، ويرسل إليه في ذلك السجن المظلم الهواء من منافذه، والغذاء من مجاريه، ويذود عنه آفات الحياة وغوائلها نطفة فعلقة فمضغة فجنيناً فبشراً سوياً...
إن إلهاً هذا شأنه مع عبده وهذه رحمته به وإحسانه إليه محالٌ عليه أن يأمر بسلبه الرّوح التي وهبه إياها، أو يرضى بسفك دمه الذي أمدّه به ليجري في شرايينه وعروقه لا ليسيل بين تلال الرّمال، وفوق شعاف الجبال...
في أي كتاب من كتب الله وفي أية سنّة من سنن أنبيائه ورسله، قرأتم جواز أن يعمد الرّجل إلى الرّجل الآمن في سربه القابع في كِسر بيته، فينزع نفسه من بين جنبه، ويفجع في أهله وقومه، لأنه لا يدينُ بدينه، ولا يذهب مذهبه في عقائده...
لو جاء لكل إنسان أن يقتل كلّ من يخالفه في رأيه ومذهبه لأقفرت البلاد من ساكنيها، وأصبح ظهر الأرض أعرى من سراة أديم...
إن وجود الإختلاف بين الناس في المذاهب والأديان والطبائع والغرائز سنّة من سنن الكون، لا يمكن تحويلها ولا تبديلها، حتى لو لم يبقَ على ظهر الأرض إلا رجلٌ واحدٌ لجرد من نفسه رجلاً آخر يخاصمه وينازعه، ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة...
إن الحياة في هذا العالَم كالحرارة لا تنتج إلا من التحاك بين جسمين مختلفين، فمحاولة توحيد المذاهب والأديان محاولةُ القضاء على هذا العالَم وسلبه روحه ونظامه...
أيها المسلمون: ليس ما كان يجري في صدر الإسلام من محاربة المسلمين المسيحيين كان مُراداً به التشفّي والانتقام منهم، أو القضاء عليهم، وإنما كان لحماية الدعوة الإسلامية أن يعترضها في طريقها معترض أو يحولَ بينها وبين انتشارها في مشارق الأرض ومغاربها حائل، أي أن القتال كان ذوداً ودفاعاً، لا تشفيّاً وانتقاماً...
وآية ذلك أن السريّة من الجيش ما كانت تخطو خطوة واحدة في سبيلها الذي تذهب فيه حتى يصل إليها أمر الخليفة القائم أن لا تزعج الرهبان في أديرتهم، والقساوسة في صوامعهم، وأن لا تحاربَ إلا من يقاومها، ولا تقاتل إلا من يقف في سبيلها، ولقد كان أحرى أن تُسفك دماء رؤساء الدين المسيحي وتسلب أرواحهم لو أن غرض المسلمين من قتال المسيحيين كان الانتقام منهم، والقضاء عليهم...
لو أنكم قضيتم على كل من يتدين بدين غير دينكم، حتى أصبحت رقعة الأرض خالصة لكم، لانقسمتم على أنفسكم مذاهب وشيعاً، ولتقاتلتم على مذاهبكم تقاتل أرباب الأديان على أديانهم، حتى لا يبقى على وجه الأرض مذهب ولا متمذهب...
أيها المسلمون: ما جاء الإسلام إلا ليقضي على مثل هذه الهمجيّة الوحشيّة التي تزعمون أنها الإسلام...
ما جاء الإسلام إلا ليستلّ من القلوب أضغانها وأحقادها ثم يملؤها بعد ذلك حكمة ورحمة، فيعيش الناس في سعادة وهناءة، وما هذه القطرات من الدماء التي أراقها في هذا السبيل إلا بمثابة العمل الجراحي الذي يتذرّع به الطبيب إلى شفاء المريض...
عذرتكم لو أن هؤلاء الذين تريقون دماءهم كانوا ظالمين لكم في شأن من شؤون حياتكم، أو ذاهبين في معاشرتكم والكون معكم مذاهبَ سوء تخافون مغبتها، وتخشون عاقبتها، أما والقوم في ظلالكم والكون تحت أجنحتكم أضعف من أن يمدوا إليكم يدَ سوء، أو يبتدروكم ببادرة شر، فلا عذر لكم...
عذرتكم بعض العذر لو لم تقتلوا الأطفال الذي لا يسأله الله عن دين ولا مذهب قبل أن يبلغوا سن الحلم، والنساء الضعيفات اللواتي لا يحسن في الحياة أخذاً ولا رداً، والشيوخ الهالكين الزاحفين وحدهم إلى القبور قبل أن تزحفوا إليهم، وتتعجلوا قضاء الله فيهم...
أما وقد أخذتم البريء بجريرة المذنب فأنتم مجرمون لا مجاهدون، وسفاكون لا محاربون...
من أي صخرة من الصخور أو هضبة من الهضبات نحتّم هذه القلوب التي تنطوي عليها جوانحكم، التي لا تروعها أناث الثكالى، ولا تحركه رنّات الأيامي...
من أي نوع من أنواع الأحجار صيغت هذه العيون التي تستطيعون أن تروا بها منظر الطفل الصغير والنار تأكل أطرافه وتتمشى في أحشاءه على مرأى ومسمع من أمه وأمه عاجزة عن معونته لأن النار لم تترك لها يداً تحرّكها، ولا قدماً تمشي عليها...
لا أستطيع أن أهنئكم بهذا الظفر والانتصار لأني أعتقد أن قتل الضعفاء جُبن ومعجزة، وأن سفك الدماء بغير ذنب ولا جرجرة وحشية أحرى أن يُعزى فيها صاحبها، لا أن يُهنأ بها...
أيها المسلمون: اقتلوا المسيحيين ما شئتم وشاءت لكم شراستكم ووحشيتكم، ولكن حذار أن تذكروا اسم الله على هذه الذبائح البشرية، فالله سبحانه وتعالى أجلّ من أن يأمر بقتل الأبرياء، أو يرضى باستضعاف الضعفاء، فهو أحكم الحاكمين، وأرحم الرحمين...
*- هذه مقالة قديمة جداً كتبها الكاتب المصري
مصطفى لطفي المنفلوطي في كتابه النظرات
وهو أحد عمالقة الأدب العربي (1877-1924)
كتبت لمناسبة ما أشيع من هياج المسلمين على المسيحيين في ولاية أطنة من ولايات الدولة العثمانية وقتلهم إياهم وتمثيلهم بهم في عام 1909 وهى واحدة من المذابح التي تعرض لها الأرمن على يد الاتراك
وفد فزع وغضب العديد من المفكرين والأدباء ومنهم مصطفى المنفلوطي فوقف يتصدى لهذه الأحداث بقلبه وبقلمه
والمقالة تعبر عن الحال الآن من أحداث فتن وقتل