صورة من الماضي الجميل
لم يكن مغنياً وحسب وإنما كان مثقفاً ومؤلفاً للتراث وشغل عضوية مجلس النواب
البكاء في بلاد مثل جنوب اليمن الذي يودع كل يوم شهيداً أو قتيلاً يقتل غيلة أو غدراً يفقد معناه. فالبكاء هناك وقد جفت الدموع في المآقي جراء المعاناة وفقدان الاعزاء بات عصيبا وضنينا..!!
لكن يظل البكاء بكاءً. والدموع تترجم عادة ما تختلج به القلوب من ألم الفراق الابدي ولوعة الوداع.
في خميس الماضي السابع من الشهر (فبراير) الجاري ودع الجنوبيون بالدموع والنحيب الفنان العدني محمد مرشد ناجي الذي كان يعاني من الكبر وامراض الشيخوخة حيث توفي عن عمر ناهز (83) عاما واخال لم يجتمع الجنوبيون على امرٍ كما اجتمعوا على فراق هذا الفنان العدني الكبير. فلقد كان موته (وهو القدر المحتوم) صدمة ليس لمحبي وعشاق الغناء العدني وليس صدمة لاهله واصدقائه ومحبيه فقط وانما كان صدمة لكل ابناء الجنوب من عدن الى مهرة.
تابعت عبر المواقع الالكترونية بعض الكتابات التي سطرها كتاب جنوبيون في رثاء المرشدي. وهذا هو الاسم الذي يفضله الجنوبيون ان يلقبوه به واشتهر به عندما كان يلعب كرة القدم.. تحت عنوان (مليونية المرشدي) كتبت الاديبة والناشطة السياسية الجنوبية هدى العطاس مقالة جاء فيها «والمرشدي كان ثورة لوحده لم يكن الفنان الكبير محمد مرشد ناجي صوتا جميلا ولا مغنيا رائعا فحسب، بل كان حالة ثقافية ابداعية فنية ساهمت في تشكيل ذاكرة الجنوب وتاريخه المعاصر، فقد تناهت اجادته لكل انواع الغناء وطرق كل مضامينه، غنى للعشق وللثورة وللوطن، لمز الساسة والسياسة باغان لاذعة كانت لسان حال الشعب المنكوب بحكام ونظام لطالما ساط شحنات غضبهم بصلافة اجهزته وصادر حق تعبيرهم بتكميم عقولهم قبل افواههم. ولم يكن سوى الفن مسرابا يرمز هموم الناس في اغان المرشدي وقصائد المحضار واخرين. والى ذلك كان فناننا الكبير مثقفا ثقافة عالية لحن وكتب وبحث في التراث الغنائي وترك مؤلفات مهمة ستكون منهلا للاجيال.
وتحت عنوان «المرشدي.. شهيد وجرح جنوبي جديد» كتب احمد بوصالح حيث قال «نعم رحلت ايها الفنان العدني الجنوبي الكبير رحيل الشهداء الابطال فانت استشهدت برصاص الاهمال والنكران اليمني الذي لا يختلف في شيء عن الرصاص الناري اليمني الحي الذي به استشهد آلاف الرجال من بني جلدتك، رحلت في وقت كان شعبك الجنوبي يحضر ويستعد فيه لاحياء ذكرى يوم الشهيد الجنوبي الذي تعد احدهم».
وجاء في مقالة عبدالله أحمد السياري الذي كتب عن (قصتي الخاصة بي مع محمد مرشد ناجي): «لم أقابل الفنان النادر الصنف الراقي العطاء محمد مرشد ناجي ابدا في حياتي ومع هذا طالما شعرت انه جزء من حياتي وجزء من هويتي ومن ارثي الثقافي والفني بل حتى انني دائما احسست انه فرد من عائلتي او من اعز اصدقائي وكأن حياتنا - هو وانا ارتبطتا بحبل من المودة والمعرفة مبنية على فنه وعطائه الثري».
بينما كتبت ليلى الخطيب التي كانت آخر صحفية تلتقي بالمرشدي وتجري معه لقاء صحفيا ولم ينتظر القدر حتى تفرغ الشريط من جهاز التسجيل فتقول «ولم اكن اتوقع انا شخصيا بانني في هذه اللحظات ساسطر كلمات في رحيلك المباغت، قبل انتهائي من تفريغ الكاسيت الغالي على نفسي فهو وثيقة مهمة جدا حظيت بها من لقائي بك ويضم في طياته تسجيلا صوتيا خالدا ورائعا يا فنانا الكبير محمد مرشد ناجي، وحرصت انا كثيرا للالتقاء بك وشرفني ويشرفني مدى العمر ان حظيت بالجلوس والحديث معك وكان لقائي الاول والاخير بك وشاءت الاقدار يكون قبل اسبوع واحد فقط من رحيلك».
نحن هنا في الكويت ليس محمد مرشد ناجي وغالبية الفنانين العدنيين غريبين علينا. فالكويتيون عشاق للاغنية العدنية ويطربون لها وكثير من فنانينا وملحنينا قد اقتبسوا ألحانهم من الغنائيين العدنيين والحضارمة قد زاروا الكويت وشاركوا في الكثير من الحفلات الغنائية التي كانت تقيمها وزارة الاعلام الكويتية بمناسبة الاعياد الوطنية. كذلك قاموا بتسجيل الكثير من اعمالهم الغنائية حصرياً لتلفزيون الكويت مثل الراحل محمد مرشد ناجي والراحل احمد قاسم والراحل فيصل العلوي وابو بكر سالم وعبدالرب ادريس وغيرهم من الفنانين الذين لاتحضرني اسماؤهم الآن.
ان الفنانين الجنوبين كانوا فعلا فنانين مناضلين فقد كانوا يحملون فنهم ويجوبون البلدان العربية ولاسيما القاهرة وبلدان الخليج العربية والواقع اذا كانت هذه المنطقة (الجزيرة العربية) توحدها الوحدة الجغرافية. كذلك كان الفن هو الأقوى في ربط شعوب المنطقة بوحدة المزاج والذوق. فانت تسمع الغناء الصوتي فلا تجد اختلافا في الايقاع عن الاغنية الكويتية ولاسيما غناء الاصوات حيث الآلات والادوات الموسيقية التي تستعمل في غناء الصوت الكويتي او البحريني هي ذات الآلات والادوات المستعملة في الغناء العدني.
ان محمد مرشد ناجي الذي فارق الدنيا الفانية جسدا لكنه لم يفارقها روحا وفناً فسيبقى فنه خالداً مع خلود الزمن وخلود الفن. فالمرشدي هذا الرجل العصامي الذي تخرج من الكتاتيب وحفظ القرآن في سن مبكرة ثم التحق بمدرسة خاصة وتركها والتحق باخرى، ثم عمل مترجماً للغة الانجليزية في مستشفى هندي بمدينة عدن. وكان في كل ذلك لا تفارقه آلة العود التي تعلم العزف عليها من قبل مدير مدرسته الذي كان فناناً وشاعرا حتى كانت اللحظة المناسبة عندما سجل محمد مرشد ناجي اول اغنية في اذاعة عدن في عام (1951) ثم كانت الانطلاقة. وخلال رحلته الفنية التي توالت نحو نصف قرن تم تكريمه داخل بلاده وخارجها. فنال العديد من الجوائز والاوسمة.
والمرشدي لم يكن فناناً مغنياً وحسب وانما كان مثقفا ومؤلفاً لعدة كتب حول التراث اليمني الفني وعمل مستشاراً لوزارة الثقافة اليمنية واما على الصعيد السياسي فقد شغل عضوية مجلس النواب لدورتين ورئاسة اتحاد الفنانين اليمنيين.
ان محمد مرشد ناجي ابن حي الشيخ عثمان في عدن الذي لم يبارحه طيلة حياته فولد هناك ومات هناك. وكما استحق من ابناء وطنه (الجنوب) التكريم فشيعوه بالدموع كذلك يستحق منا نحن هنا في الكويت التكريم. ولنتذكر انه كان فناناً مسالماً عصامياً صنع نفسه بنفسه..
ان المرشدي الذي اطرب عشاق الغناء العدني حياً ابكاهم ميتاً. فسلام عليه حياً وميتاً.
حسن علي كرم