الامام عبد الله بن عمر بامخرمة في الحلقة الثالثة من كتاب الحياة الفكرية و العلمية في حضرموت في القرن العاشر الهجري :
الحياة الفكرية و العلمية في حضرموت في القرن العاشر الهجري :
( الحلقة الثانية ) ثانياً : الإمام العلامة : عبد الله بن عمر بامخرمة
المتوفي في عدن سنة 972هـ :
هو احد اصحاب الكفاءات النادرة والمواهب الخارقة والقوى العقلية الممتازة في التاريخ الحضرمي ، ولقد ادهش كثيرا من معاصريه بسعة اطلاعه وكثرة معلوماته ووفرة ذكائه ، حتى قالوا عنه ما نحسبه اليوم من قبيل المبالغات(9).
تذكر المراجع من مؤلفاته ما يلي :
1- حاشية على اسنى المطالب شرح على الروض .
2- الفتاوي الكبرى .
3- الفتاوي الصغرى الهجرانية .
4- المصباح : شرح العدة والسلاح في أحكام النكاح .
5- نكت على تحفة المحتاج لأبن حجر .
6- شرح الرحبية في الفرائض .
7- شرح مظومة له في ذوي الفروض والرد عليهم .
8- شرح مظومة له في قسمة التركات .
9- تراجم تاريخية كتكميل لطبقات الأسنوي .
10- شرح مظومة له في ظل الاستواء .
11- رسالة في علم الجبر والمقابلة تتعلق بالبيوع والضمان والاقرار والوصايا والعتق .
12- رسالة في المناسك .
13- رسالة في علم المساحة .
14- رسالة في الربع المجيب .
15- رسالة في سمت القبلة .
16- رسالة في معرفة الاوقات والساعات.
17- رسالة في اختلاف المطالع واتفاقها .
18- رسالة في القهوة .
19- كتاب في التاريخ .
20- حقيقة التوحيد وصحيح الاعتقاد في تكفير طائفة الوحدة والاتحاد .
21- الفضيحة في النصيحة : قال عنه هو: {انه يرد فيه على كتاب الإمام الغزالي ( التبر المسبوك في نصيحة الملوك ) الذي اهداه إلى السلطان السلجوقي في عهده .
عند النظر في الحياة العلمية والفكرية لهذا الإمام العلامة ، لا بد من القول انه كان مفتيا على جميع مذاهب الفروع الإسلامية ، فقد ( أقبل عليه الناس من كل بلد، وقصد بالفتيا من الهند ، والسواحل ، وملبيار وآشي ، وعمان ، وهرمز (10)، وجميع مذاهب أهل اليمن وحضرموت والشام ، وفي هذا يقول امامنا :
لو أردت فوق النجوم علا ما فاتني ذاك في شام ولا يمن
ومدحه أحد أصدقائه بقوله :
فتى يبرز للفتوى وأي فتى له فتوى أهل الشام واليمن
ومدحه الأديب زكريا الدمشقي لإجادته الفتوى على المذهب المالكي بقوله :
يا عمري الآصل ، أنت مالكي ...و نافعي بفضله بين البشر
ها قد رفعت اليكم مسندي ...... لمالك لنافع لابن عمر
وفي كتابه ( المصباح في شرح العدة والسلاح ) كثيرا ما نجده ينفرد برأي خاص به ، ولا يلتزم في ذلك بمذهب معين ، وإذن فقد كان إمامنا بامخرمة مجتهدًا ، ولهذا كان يجيد الفتوى في كل الفروع .
غير ان الاجتهاد لدى أهل السنة كان قد اغلق منذ عهد الخليفة العباسي المتوكل في القرن الرابع الهجري ، واصبح التقليد هو سيد الموقف لديهم ، وإذن فان إمامنا ليس سني الاعتقاد ، ترى ما هي حقيقة مذهب بامخرمة الذي يتطابق مع حالته في الاجتهاد .
انه المذهب الزيدي ، وهو مذهب الدولة الكثيرية ، ومذهب والده الفقيه عمر بن عبد الله بامخرمة ، قبل ان يتحول عنه في أواخر عمره إلى التصوف الفلسفي ، ذلك ان ( قواعد الزيدية في أصول الفقه لا تقوم على أساس مذهب معين ، كما هو شأنهم في أصول الدين ، بل تقوم على الاجتهاد المحض ، لذا فانها احيانا تخالف أقوال الإمام زيد ، والزيدية على الإطلاق لا يقولون بجواز التقليد في أصول الفقه ، اما الاجتهاد فيكفي في ذلك قولهم بوجوبه على كل مسلم ، على ان الباحث المدقق ، والفاحص المنصف ، يجد في طبقات الزيدية العدد الكبير ممن ينطبق عليهم شروط ما يسمى عند الأصوليين بـ (الاستقلال الاجتهادي )(11) .
وهكذا يمكن فهم مقصود تسميه الحضارمة له بـ ( الشافعي الأخير اوالشافعي الصغير ) ، فليس ذلك لأنه شافعي الفروع او سني الاعتقاد ، ولكن لأنه مدرسة مستقلة من النمط الاجتهادي الزيدي . وحالة إمامنا بامخرمة الاجتهادية تتناسب مع حالة زيدية اليمن في القرن العاشر الهجري ، حيث انهم وحتى ذلك القرن الذي عاش فيه بامخرمة ، لم يكن لهم فقه محدد بذاته ، بل يأخذون أفضل ما في المذاهب الإسلامية تيسيرا ، وهذا الأمر يفرض على الفقيه الزيدي الإلمام بالمذاهب الفرعية الإسلامية ، اما الإمام المجتهد فشأنه ليس مجرد الإلمام فحسب ، بل اجادة العلم بتلك المذاهب ، وبالتالي جاز له الفتوى عليها جميعا ، كما هو حال امامنا بامخرمة .
زيدية الإمام بامخرمة لابد ان تنعكس فكرا مضادا للمذهب المعقائدي السني وامتداداته الصوفية ، ومعلوم ان الفكرالعقائدي السني قد استقر وإلى اليوم على فكر الإمام الغزالي ، ففي كتاب بامخرمة المفقود ( الفضيحة الواقعة في النصيحة ) الذي يقول هو عنه انه يرد فيه على الإمام الغزالي ، دلالة واضحة على ان بامخرمة لا يكن ودا عقائديا للإمام الغزالي ، فعنوان الكتاب وحده كاف على ان بامخرمة لم يكن في كتابه ذاك يرد على الإمام الغزالي فحسب ، بل ويشهر به عقائدياً ، كما ان عنوان كتابه الآخر المفقود ( حقيقة التوحيد وصحيح الأعتقاد في تكفير طائفة الوحدة والاتحاد ) يدل دلالة واضحة أيضاً على موقفه العقائدي المكفر لأصحاب التصوف الفلسفي ، اما نكرانه لما يسمى بالتصوف السني على طريقة الإمام الغزالي ، فيدل عليه الكثير من اشعاره في العقيدة ، مثل قوله في اصحاب ذلك التصوف(12) :
و انصب لكسب المال كي تكفي به ... منن اللئام في الاحتجاج لبذلها
فركوبك الاهوال في تحصيله ..... عين الرجالة ان تكن من رجلها
بالمال يصفو الدين و الدنيا معا .... و المال في ايدي الرجال كعقلها
و احذر كلام عصابة من عجزها.... رضيت لباس الافتقار و ذلها
تحتج في تفضيله بأدلة ...... جهلت حقائق شرطها في نقلها
فالفقر كاد يكون كفرا في الورى ..... قد قال ذلك فيه خاتم رسلها
و النهي عن جمع الحطام محله .... من ليس يقصد عند ذلك عدلها
أما الذي ينوي الحلال كي يصن ....عن وجهه، و لكي يمن بفضلها
من غير ما حرص و غير تكاثر ..... فثوابه متعين ، فاقصد لها
وموقف الإمام بامخرمة من التصوف هو بعينه موقف الزيدية والمعتزلة والأباضية ، حتى ان المؤرخ الزيدي يحيى بن الحسين اطلع على كتابه ( حقيقة التوحيد ) في القرن العاشر الهجري (13) ، وهذا يعني عناية الزيدية بهذا الكتاب لأنه على مذهبهم ، على ان زيدية الإمام بامخرمة تبرر عدم اعتماد الأخلاف الحضارمة على فتاويه وآرائه الفقهية الشافعية ، واعتمادهم بدلا عنها على فتاوي الإمام أبن حجر الهيتمي المكي المعاصر له .
تذكر المراجع ان مدينة الهجرين موطن آل بامخرمة ، كان فيها في القديم مذهبان : شافعي وحنفي ، وهذا يعني وجودا بارزاللاعتزال والزيدية ، اضافة إلى المذهب الأباضي ، مذهب أهل الكسر عموما ، ولقد برز دور الهجرين الجهادي المذهبي في القرن السابع الهجري ، عندما كانت مقصدا متقدما للقوات الرسولية في غزوها لحضرموت ، اضافة إلى ما تعرض له الفقيه الشاعر الاباضي علي بن عقبة على يد الرسوليين ، وهو ما بيناه في حينه . وبذلك الدورالجهادي لمدينة الهجرين تجاه الخصوم المذهبيين ، يفتخر الامام بامخرمة ، بقوله :
أنا الذي السعد و العلياء تخدمني .... و طالع المجد في بيتي و غاربه
من معشر زان في الآفاق نعتهم ..... كالدر ينظمه في السمط ثاقبه
من كل مضطلع بالعلم متصف ..... بالجود تهمي على الدنيا سحائبه
من كل طود من الامجاد تحسبه ..... اذا تكلم بحرا هاج صاخبه
لا يخضعون لجبار اخافهم ..... قد رجت الارض من شر كتائبه
و لا يدينون في سر و لا علن .... الا بحق بدت صحوا مذاهب
ومن البيتين الأخيرين نفهم أن جهاد أهل الهجرين ومنهم آل بامخرمة ضد الغزاة الذين قصدوها ، إنما كان لسبب مذهبي عقائدي محض ، وهذا الأمر ينطبق على عموم حضرموت كما سبق بيانه .
سيرته مع السلطان بدر : تحت اصرار السلطان بدر تولى الإمام بامخرمة قضاء الشحر مرتين ، كما كان مستشارا سياسيا له ، ويبدو ان السلطان استطاع بدهائه ، ان يخفي اهدافه ومراميه الانقلابية السنية ، ويوهم من حوله ومنهم امامنا بامخرمة ، بانه يسعى من سياساته إلى اقامة دولة مذهب الأسلاف الزيدي على كامل التراب الحضرمي ، وانه انما يجاهد الأباضية ويحربها لذلك . الا ان الحقيقة لابد ان تظهر ولو بعد حين ، خاصة أمام من حوله لأنهم من أهل السياسة ورجالها ومنغمسين فيها بحكم مناصبهم وقربهم من الأحداث ، ولابد ان يتضح للإمام بامخرمة التناقض بين أقوال السلطان وأفعاله وسياساته ، فكان الصدام والافتراق بينهما ، ويبدو ان السلطان بدر قد سلك مع بامخرمة نفس المسلك الذي كان مع الإمام بحرق ، فتسوء حالته المالية ، فيغادر إلى عدن ، كما غادرقبله بحرق ، ويقول عن ظروف تلك المغادرة :
فوالله ما فارقت ارضي عن قلى ....و لكن لعجزي عن حقوق لوازم
و ما العذر اني كنت عند قرابة .... يرجون نفعا من فقير معدم
و ما أشتهي طول الحياة للذة ..... يعيش ذوي اللذات عيش البهائم
و لكن لكسب المجد ما عشت و الثنا ....و نفع الورى طرا و بذل المراحم
ومن منفاه الاختياري ، يبعث الإمام بامخرمة بقصيدة لصديق في حضرموت ، يشرح فيها الأسباب المذهبية والسياسية لمغادرته ، حيث يقول :
و الدهر من طبعه الاضرار فهو اذا .... ما سر ، أبدله في الحال بالحزن
و ان يجمع احبابا يفرقهم .....و ان يؤلف أغرى القوم بالفتن
و غير مستغرب من أمر عادته .... رفع النذول و وضع الفاضل الحسن
أتى الزمان بنوه في شبيبته ...... فسرهم ، و أتينا الزمان حين فني
ثم يصف ما حدث وما ظهر له من السلطان :
غاض الوفاء و فاض الغدر و انفرجت .... مسافة الخلف بين الفعل و اللسن
لكنني لست ممن يلهه طمع .... يذله أو يبيع الدين بالثمن
و لا أرى الذل لي خدنا و ان بعدت ....بي النوى عن الاوطان و السكن
ومن هذه الأبيات الأخيرة نفهم أن خلافه وافتراقه مع السلطان بدر إنما كان بسبب سياسات السلطان المذهبية العقائدية .
*- بقلم المؤلف : سالم فرج مفلح – باحث ومؤلف