بقلم الباحث والمؤرخ : سالم فرج مفلح
الثقافة ظاهرة اجتماعية ، تتجدد وتتطور بقدر تعاملها مع عامل النفي والتجاوز لكل ما يظهر سلبه وفساده فيها ، وابداله بالايجابي ، وهذا يعني ان الثقافة لأي شعب من الشعوب في مرحلة معينة ، انما هي عملية تراكمية ، مرت عبر قرون ، بقدر معين من النفي والتجاوز حتى وصلت إلى ما وصلت إليه .
وفي فصل سابق من هذه الدراسة ، تحدثنا عن الحياة الفكرية والعلمية في حضرموت في القرن السادس الهجري فوجدنا البلاد تعج بحركة هائلة من العطاء ، يقودها مجمع علمي معتزلي كبير وناضج ، عدد كبير منه يشتغل بالتأليف ، وكان ذلك المجمع الكبير ثمرة زحف علمي معتزلي على حضرموت الاعتزال من شتى اقطار الإسلام ، على ان الأهم في ثقافة وعلوم القرن السادس الهجري هو انها كانت تعتمد في حركتها ونشاطها على العقل ومنطقه وأحكامه ، باعتبار النزعة العقلية هي الأساس في مذهب الاعتزال وعلومه ، هذه النزعة العقلية المعتزلية كان قد تم طردها ومطاردتها في اقطار الإسلام التي غلب عليه أهل السنة ، وهي الأعم الغالب من بلاد الإسلام .
هذه النزعة العقلية التي كانت تقود الحركة الفكرية والعلمية في حضرموت في القرن السادس الهجري ، مكنت تلك الحركة من ممارسة أكبر قدر ممكن من النفي والتجاوز لكل ما يظهر فساده وسلبه ، وابداله بالايجابي العقلي ، هذه الخاصية التي كانت تتمتع بها تلك الحركة في القرن السادس ، حققت لها امكانيات التجديد والتطور والابداع والانفتاح على مختلف العلوم ، دون خوف او وجل او تحفظ ، طالما انها سوف تحاكم محاكمة انتقادية عقلية .
كان لا بد لحركة فكرية وعلمية تتمتع بذلك القدر الكبير والمتميز من الامكانيات والتحرر من عقد التقليد ومنع التجديد والاضافة والاجتهاد ، ان تعطي ثمارها في القرون اللاحقة ، او على الأقل تحافظ على ذلك المستوى الرفيع الذي تمتعت به في القرن السادس .
ففي القرن الثامن الهجري ، وبالتحديد سنة ـ 794هـ ، زار حضرموت الفقيه الشيخ عبد الرحمن بن اسعد بن عبدالله اليافعي المكي ، فوجدها تزخر بأكابر العلماء الذين ليس لهم ولالعلومهم نظير في باقي بلاد الإسلام ، هكذا يمكن فهم قوله عن زيارته تلك :
مررت بوادي حضرموت مسلما فألفيته بالبشر مبتسما رحبا
ألفيت فيه من جهابذة العلا أكابر لا يلقون شرقا و لا غربا
نعم ، لا يلقون شرقا ولا غربا من بلاد الإسلام ، فلم يعد ، ومنذ زمن بعيد، في بلاد الإسلام ما خلا حضرموت أرض تقبلهم وتقبل علومهم المعتزلية العقلية ، وبهذا نرى ان الفقيه اليافعي كان صادقا مع نفسه ومع التاريخ فيما اصدره من حكم عن الحالة الفكرية والعلمية في حضرموت في أواخر القرن الثامن الهجري .
نحن نعلم ان الرسوليين ( آل رسول ) السنة ، قد حكموا حضرموت منذ أواخر القرن السابع الهجري حتى أواخر القرن الثامن ، الا ان دولتهم وحكمهم لم ينعم بلحظة هدوء او استقرار ، فقد كانت المقاومة العسكرية الأباضية له عنيفة في الداخل تحت قيادة قبيلة نهد ، وفي الساحل تحت قيادة آل ابي دجانة ومعهم أهل المهرة والمشقاص ، وكذلك الحال بالنسبة لعلماء الاعتزال وأهل المدن الحضرمية الكبرى ، وكان محصلة تلك المقاومة ان تم حصر الوجود الرسولي في حضرموت في مدينة الشحر وحدها . ورغم مكوثهم في الشحر قرنا من الزمان ، الا انهم لم يتركوا وراءهم بها معهدا او معبدا او مدرسة (1) ، واكتفوا منها بتحصيل المكوس والضرائب على نشاطها التجاري ، ومن ذلك نفهم ان الرسوليين لم يكن لديهم مشروع انقلابي مذهبي ، يهدف إلى فرض السيادة العقائدية السنية عليها ، بدلا من أوضاعها التاريخية الأباضية والمعتزلية ، والحقيقة التي نراها ، هي ان الدولة الرسولية لم تكن تملك القدرة العلمية على الأقل للقيام بانقلاب مذهبي عقائدي سني في حضرموت ، حتى ولو لم تكن المقاومة بذلك القدر من القوة والشراسة والإنتشار ، فقد كان الواقع المذهبي غير السني على قدر من الرسوخ والثبات بحيث يفشل أمامه أي جهد رسولي للانقلاب عليه.
وفي نهاية القرن الثامن الهجري ظهرت الدولة الكثيرية الزيدية المذهب ، لتكون بذلك ركناً قوياً واضافة مهمة في ترسيخ الفكر والعلم المعتزلي ، فالعلوم الزيدية ومنطلقاتها العقلية ، هي نفسها علوم ومنطلقات المذهب المعتزلي ، وإذن لا بد ان يكون ظهور الدولة الكثيرية عامل دفع قوي ، كان يحتاج إليه مذهب الاعتزال وعلومه ، بعد ان زالت إمامات الاعتزال في المدن الحضرمية منذ حوالي قرن من الزمان ، واصبح المذهب الأباضي وزعاماته هو صاحب الولاية السياسية في البلاد .
لهذا لم يكن غريبا ان يكون القرن العاشر الهجري من أحفل القرون الحضرمية بالعلم والعلماء ، فقد ضمت هذه المائة العاشرة جمهرة كبيرة وعظيمة من أكابر العلماء في العلوم العربية والعقلية والدينية ، بل لم يكن غريبا أيضاً أن يكون للواحد منهم تلك الكثرة والغزارة والتنوع في الإنتاج العلمي والفكري ، كما هو الحال لدى الإئمة محمد بن عمربحرق وعبدالله بن عمر بامخرمة و محمد بن عمر باجمال :
أولاً : الإمام جمال الدين أبو عبد الله محمد بن عمر بحرق
المتوفي في الهند سنة 930هـ :
تذكر المراجع من مؤلفاته ما يلي :
1- عقد الدرر في الايمان بالقضاء والقدر .(عدة ورقات – مكتبة المخطوطات – تريم)
2- ذخيرة الأخوان من كتاب الاستغناء بالقرآن .
3- الحسام المسلول في الرد على منتقصي اصحاب الرسول : ويبدو انه في الرد على الرافضة والأباضية .
4- التبصرة ألأحمدية في السيرة المحمدية .
5- تجريد المقاصد عن الاسانيد والشواهد : ويبدو انه عنى بالمقاصد كتاب ( المقاصد الحسنة ) للإمام السخاوي المتوفي سنة ـ 903هـ وهو في الجرح والتعديل . ( علم الحديث ) .
6- حلية البنات والبنين فيما يحتاج إليه في أمر الدين .
7- العروة الوثيقة : نظم .
8- الحديقة الانيقة في شرح العروة الوثيقة : مطبوع .
9- العقيدة الشافعية في شرح القصيدة اليافعية .
10- الحواشي المفيدة على أبيات اليافعي في العقيدة .
11- النبذه المختصرة في معرفة الخصال المكفرة للذنوب .
12- متعة الأسماع بأحكام السماع .
13- ترتيب السلوك إلى ملك الملوك .
14- مختصر نهاية الناشري في علم القراءات .
15- شرح الجزرة في علم التجويد .
16- رسالة في اثبات رسالة هارون وكفر فرعون .
17- شرح ملحمة الاعراب في النحو للحريري .
18- فتح الرؤوف في شرح منظمة معاني الحروف .
19- فتح الأقفال في شرح بنية الأفعال .
20- أرجوزة في الطب وشرحها .
21- أرجوزة في الحساب وشرحها .
22- مختصر الخلاصة لابن مالك .
23- رسالة في علم الميقات .
24- مختصر شرح الصفدي على لامية العجم .
25- البهجة في تقويم اللهجة .
26- شرح على مظومة العروض .
27- مختصر الإذكار .
28- مختصر الترغيب والترهيب .
29- شرح العقيدة .( عدة ورقات – مكتبة المخطوطات – تريم )
30- العقد الثمين في اثبات القول بالتقبيح والتحسين .
وهذا الكتاب الأخير هو ما نود الوقوف أمامه ، وهو من الكتب المفقودة ، وقضيته هي انه يورد تحت عنوان : ( العقد الثمين في ابطال القول بالتقبيح والتحسين ) ، وهذا العنوان القائل ( بالابطال ) كاف لوحده للدلالة عل اشعرية وسنية إمامنا بحرق ، فأهل السنة والاباضية وحدهم القائلون بذلك الابطال الذي يرتبط به بالضرورة بقولهم بجبرية افعال العباد ، في حين يرى المعتزلة والزيدية خلاف قول أهل السنة والاباضية ، أي حرية اختيار العباد لأفعالهم ، ويرتبط لديهم من قولهم في اثبات القول بالتقبيح والتحسين العقليين .
وإذاكان إمامنا بحرق سني الاعتقاد ، وله تأليف في ( ابطال ) قول الخصوم بقدرة العقل الإنساني على التقبيح والتحسين ، فإنّ موقفه هذا يجب أن يكون ثابتا لا يناقضه في مؤلف آخر له ، غير أننا وجدناه يقول بخلاف ما يقوله عنوان (الإبطال) ، حيث قال عن قدرة العقل و قوته : ( فاعتدالها وحسنها ان تصير بحيث يدرك بها الفرق بين الصدق والكذب في الأقوال ، وبين الجميل والقبيح في الافعال ، وبين الحق والباطل في الاعتقادات )(2) .
وفي هذا النص لإمامنا بحرق ، نراه يقول صراحة بقدرة العقل على التقبيح والتحسين على نهج علماء الاعتزال ، بل ونجد موقفه أكثر وضوحا وإبانة من المسألة العقلية ، عندما تناول مسألة إيمان أهل ( الكهف ) ، حيث قال : ( ان قولهم ابتداء من غير واسطة من نبي مرسل : ( ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إله ) دليل على ان العلم بالله ووحدانيته ووجوب عبادته ، كما تحصل بالنقل ( ارسال الرسل ) فقد يحصل بالعقل كذلك ، وذلك بالتفكير في ملكوت السموات والأرض والإستدلال على أنّ هذه الصنعة العجيبة ، لا بد لها من صانع حكيم قادر ) (3) .
ها نحن هنا مرة أخرى أمام أدب الاستدلال بالخلق على الخالق تعالى ، ادب رؤوس الاعتزال الكبار الذي كان محتوى القصيدة ( الفكرية ) لشيخ الإسلام بافضل في القرن السادس الهجري وأمام الإيمان عن طريق النظر العقلي ، هذا النوع من النظر هو واجب سمعا وعقلا لدى المعتزلة والزيدية والشيعة ، اما الصوفية فانهم يبطلونه ويرونه بدعة في الدين .
موقف الأمام بحرق من قضية خلق أفعال العباد :
عند حديثنا عن ((قوافي)) الإمام أبي الحب التريمي في القرن السادس الهجري ، أوضحنا موقف المعتزلة من قضية أفعال العباد وقلنا حينها إن المعتزلة يرون إنها مخلوقة منهم أنفسهم ، وليست مخلوقه لله تعالى ، بل يرون أن الله جل شأنه جعل الناس مخيرين فيما يأتون من أفعال ، وعلى قدر إختيارهم يكون الثواب والعقاب منه تعالى ، والمعتزلة في هذا الموقف هم بخلاف المجبرة ومنهم الأشاعرة الذين يرون أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ، وأن العباد ليس لهم إرادة فيها ، أو لهم الكسب لا غير.
الحقيقة أنّ المعتزلة لم يستطيعوا أنْ يهضموا نظرية الجبر أبداً ، ولهذا نفوا القدر بشدة ، ورفضوا أنْ يكون الإنسان العاقل مجرد آلة صماء لا رأي له ولا حرية ولا اختيار وأنما تسيرها يد (القضاء) من وراء الستار (4).
و((مذهب الأفعال الأختيارية في فهم المعتزلة يعني تطبيقا لنظريتهم في التحسين والتقبيح ، وهو يعني تنزيه الله تعالى عن القبائح من ظلم وقتل وتدمير وأنتهاك الحرمات، وما إلى ذلك من صور القبح المشينة التي يفعلها الإنسان ))(5).
وإذا كنا قد وجدنا الأمام بحرق يقول صراحة بالتحسين والتقبيح على مذهب المعتزلة فإنه يلزم من ذلك أن يكون موقفه من قضية خلق أفعال العباد ، هو نفسه موقف المعتزلة ، ذلك انه لايجوز ان يكون له موقفا أخر غير موقفهم ، ذلك ان مسائل علم الكلام مترابطة بصورة دقيقة تجعل اتخاذ موقف من واحدة منها ، يلزم عنة اتخاذ موقف موافق لها مذهبيا في المسائل الاخرى.
يقول صاحب ((تاريخ الشحر)) فيما وجده مكتوبا بخط الفقيه بحرق على حاشية مختصره شرح الصفدي :-
قال أحد المعتزلة :-
زعم الجهول ومن يقول بقولـه إن المعاصي من فعال الخالق
إذا كان حقا ما يقول فلم قضى حد الزنا وقطع يد السارق
فقال الفقيه بحرق ردا عليه :-
يا تائها جعل القضاء مطابقا للأمر وهـو غير مطابــق
أن القضاء أعم إذ ما كلما يقضي الأله لأمره بموافـق
فالحد مشروع لعاصي أمره وقضاؤه لاعذر فيه لفاسق (6)
التحليل :
النص الأول:
هذا القول لأحد المعتزلة واضح الدلالة والمعنى فهو يتحدث مفندا موقف القائلين بالجبر، في قولهم أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ويصفهم بالجهلة لأنه يراهم بذلك القول ، قد جعلوا المعاصي منسوبه إلى الله تعالى ، وهو ما يرى فيه المعتزلة تجويرا له تعالى ، ويرد عليهم بقوله : إذا كانت تلك المعاصي التي يرتكبها العباد ، أنما هي مقدرة عليهم من الله تعالى ، فلماذا إذن قضى الله بالحدود عليهم ؟ ونلاحظ هنا أن الشاعر المعتزلي قد أستخدم فعل (قضى) منسوبا إلى الله تعالى في مسألة إقامة الحدود ، بمعنى ((أمر)) ، غير أن أستخدام القضاء منسوبا إلى الله تعالى لا يستعمله المعتزلة ، مثل قولنا قضى القاضي على السارق بالقطع أو الحبس بمعنى ألزم وحتم ووجوب تنفيذ هذا الحكم كرها أو اضطرارا ، هذا المعنى لا يستعمله المعتزلة في حق الله تعالى (7). وهذا يعني أن فعل (قضى) في النص جاء في غير محله المذهبي المعتزلي .
النص الثاني للإمام بحرق :
أول ما نلاحظه على نص الإمام ، أنه لم يتعرض للبيت الأول من النص الأول وهو بيت القصيد في عرض قول المجبرة ونقد المعتزلة لهم ، هذه الملاحظة لايمكن إلا أن تعني شيئا واحدا وهو ، أن الأمام يقف نفس موقف اصحاب النص الأول ((المعتزلة )) من تلك القضية ، وإذا كان الأمر كذلك ، فلماذا إذن أنبرى للرد على نص يتفق ومعتقده ؟
الحقيقة أن الأمام بحرق قد حدد في البيت الأول من نصه ، ليس سبب رده على صاحب النص الأول ولكن سبب أحتجاجه عليه ، إذ يقول أنه ((جعل القضاء مطابقا للأمر ، وهو غير مطابق )) ويقصد الأمام بذلك قول النص الأول ((قضى الأله حد الزنا وقطع يد السارق)) . ولقد بينا في ملاحظتنا على ذلك القول : أن هذا الأستخدام لفعل ((قضى)) بهذا المعنى لا يستعمله المعتزلة ، لأنه يوحي بالجبر .
الحقيقة أن إحتجاج الأمام أنما يصدرعن مرجعية معتزلية ورأس معتزلي كبير ، يحافظ على نقاوة الفكر المعتزلي من أية شائبة جبر ، ويسعى إلى تصحيح المفاهيم والأفكار المذهبية المعتزلية ، حتى ولو كان مصدرها أهل المذهب أنفسهم ، كما هو الحال بالنسبة لصاحب النص الأول .
وفي البيتين الثاني والثالث يوضح الأمام بحرق المسألة بقوله : - ((أن القضاء الرباني أعم ، بمعنى أنه حتمي الوقوع ولا راد له ، وليس الأمر كذلك بالنسبة للأمر الرباني . ثم يزيد الأمام المسألة وضوحا من حيث أخطأ و ((تاه)) صاحب النص الأول فيقول :- الحد مشروع لعاصي أمره أي أن مسألة الحدود مسألة ((شرعية)) يحكم بها وينفذها البشر ((الولاة والحكام)) وهي غير حتمية التنفيذ لأي عذر كان ، إذ أنها من أفعال العباد إن شاؤوا نفذوها وإن شاؤوا عطلوها ، ولو أن الله ((قضى)) بالحدود على العصاة وكانت حدود الله قضاءا ربانيا لما كان ثمة عذر لفاسق من عقابه تعالى ، لأن قضاء الله لا راد له ، حتمي الوقوع كرها أو إضطرارا .
إن خير مثال معتزلي حضرمي (شعري) للدلالة على مقصود المعتزلة من مفهوم (القضاء) الذي يحتج لأجله الإمام بحرق ، هو قول الإمام المعتزلي الكبير شيخ الإسلام سالم بافضل الذي سبق أن أوردناه في حينه ، القائل :
ان الأمور ألتوت وتعقدت نزل القضاء من السماء فحلّها
وفي هذا البيت لم يأتِ (القضاء) بمعنى (الأمر) كما هو الحال في النص الأول ، وإنما جاء للدلالة على معنى الحسم والحتم والإلزام و الاضرار الذي لا خيار فيه ولا عذر ولا راد له من الله الذي إذا أراد شيئاً إنما يقول له كن ، فيكون .
وهكذا نجد أنفسنا ، مع الأمام بحرق أمام رأس معتزلي كبير ومرجعية مذهبية لا تفوتها صغيرة أو كبيرة ، و من الذين تستفزهم لفظة القضاء إذا نسبت إلى الله تعالى ، فيبادرون إلى إستيضاح القائل أو السائل : ماذا تقصد بقولك هذا ؟ ثم يذهبون في تفنيد كلما يوحي به القول من معاني الجبر في أفعال العباد لينفوا قضاء الله بها (8).
ولهذا ، فليس لنا أن نعجب كيف إستطاع أمامنا ومن خلال ثلاث أبيات فقط، بيان خطأ النص الأول ، ونقده ، وتصحيح خطئه ، بأسلوب جميل بديع وواضح الدلاله، في قضية عقائدية فلسفية ، فذاك أمر أتقنه رؤوس الاعتزال على ما بيناه فيما سبق عند حديثنا عن أدب المعتزلة .
وبهذا لعل القارئ الكريم يقدر المدى البعيد الذي تعرض له تراث الأسلاف من تشويه وتحريف حتى ينسجم مع الواقع المذهبي اليوم ، خاصة إذاعلم ان كتب هؤلاء الأخلاف تتحدث عن إمامنا بحرق ليس بأعتباره سني الاعتقاد فحسب ، بل وأيضاً علماً من أعلام التصوف في القرن العاشر الهجري ، ولهذا لزم ان نتعامل مع تراث الأسلاف الحضارمة كما ينشره ويذيعه الأخلاف ، بأكبر قدر من الحيطة والإحتراس ، وبعيداً عن السطحية والسذاجة .
وبعد : فاننا ونحن نتعرض للحياة العلمية والفكرية للإمام بحرق ، نذكر انه كان قد تصدى للتدريس والافتاء في مدينته الشحر ، ثم تولى القضاء فيها ، وكان مثلا للعدالة والنزاهة وقول الحق ، ثم تذكر المراجع انه حدث خلاف بينه وبين الأمير مطران نائب السلطان بدرأبي طويرق على الشحر ، فاستقال من القضاء ، ثم ساءت حالته المالية ، واضطرته إلى المغادرة إلى عدن ، ومنها إلى الهند ، حيث وافاه الأجل المحتوم ، على اننا نرى ان إختلاف الإمام بحرق لم يكن في حقيقة الأمر مع الأمير مطران ، بل مع السلطان بدر نفسه ، وان كان الأمير مطران طرفاً فيه ، فلابد ان يكون ذلك بتوجيهات السلطان ، كما انه يصعب فهم ان تسوءَ حالته المالية بمجرد استقالته من القضاء ، فليس بالقضاء وحده يمكن ان يعيش الإمام بحرق ، فلديه ألف طريقة وطريقة تضمن له عيشة كريمة ، ولكن الأقرب عقلاً ان خلافه مع السلطان بدر كان خلافاً سياسياً ( عقائدياً ) ، ثم ان السلطان منعه من ممارسة أي عمل يرتزق منه ، وأمر بإبعاده من البلاد ، هكذا يمكن فهم ان تسؤ حالته ومغادرته البلاد .
*- يتبع