(بيان للناس) في كتاب : حضرموت بين القرنين : الرابع و الحادي عشر للهجرة

2016-04-08 14:36
(بيان للناس) في كتاب : حضرموت بين القرنين : الرابع و الحادي عشر للهجرة
شبوه برس - خاص - المكلا

 

(الحلقة الثانية و الاخيرة)

مشروع الرؤية :

في كتاب : حضرموت بين القرنين : الرابع و الحادي عشر للهجرة ، العاشر و السابع عشر للميلاد : بين الاباضية و المعتزلة (مشروع رؤية)

و مستقبل الكتابة التاريخية في المسألة الحضرمية

سالم فرج مفلح

(أن نكون الاوائل هو أن نكون ملعونين محتقرين – نيتشه-)

..........................

ان مقولة المؤرخ الحداد تلك ، تعنى فيما تعني ، بل يلزم عنها بالضرورة ، ان المكونات الاصيلة للهوية الحضرمية ، قد تعرضت ل (عنف ثقافي ) تم من خلالة (اعادة توجيه) تلك المكونات الى وجهة جديدة مستحدثة و مقطوعة الجذوربالحقيقة التاريخية الحضرمية ، و بمعنى آخر ان الهوية الحضرمية كما هي مكتوبة اليوم ، تفتقد لعنصر الاصالة ، و تلك نتيجة لازمة لتغييب الحقيقة التاريخية ، و انه تم فرضها فرضا (اي الهوية المكتوبة) على المجتمع و الثقافة الوطنية بأساليب ذلك العنف الثقافي ، و لا يكون هذا النوع من العنف الا مقصودا........

و اذا كانت الهوية الحضرمية الجامعة ، قد تكونت – تاريخيا- من هويتين ، هما هوية (المدن) و هوية (القبائل) ،و بينهما صراع خفي احيانا و مكشوف عنيف في احيان أخرى ، و اذا كان ما هو مكتوب عن الهوية القبائلية لا يكاد يذكر في احسن الاحوال ،و المكتوب عن هوية المدن كتب تحت ضغط عقدة الاخلاف من حقيقة سيرة الاسلاف ، فان كل ذلك يعني ان حضرموت اليوم لا تملك هوية اصيلة مكتوبة ، و تلك لعمري ، لقاصمة الظهر .

ما كان لأزمة الهوية الحضرمية عبر مكونها التاريخي الا ان تفرض نفسها على جهود الرعيل الاول من اهل الفكر الحضارمة ، فكان ان بذلوا جهدا جبارا في محاولتهم اختراق سديم مجاهل التاريخ الحضرمي ، و نذكر منهم : سعيد عوض باوزير و محمد عبدالقادر الصبان و علي احمد باكثير و صالح الحامد و عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف و غيرهم ...، و سوف يظل المكون التاريخي للهوية يفرض نفسه في الدرس و التحقيق حتى العودة المحققة للوعي المفقود.....................

ان الهوية الوطنية القادرة على الصمود والاضافة في هذا العصر الذي تجتاحه اعاصير (العولمة) ، انما هي تلك التي تمتلك القدرة على نقد مكوناتها و تجديدها و الاضافة اليها ، و تأصيل ما يتناسب و روح العصر و نبذ كل زائف او مهترئ او فقد قدرته على حشد امكانيات الامة او اصبح معرقل لمسيرتها نحو الحضور ولابداع .

و امام هذه الصعوبة و التعقيد و الاهمية الحيوية لمعضلة و أزمة الهوية الحضرمية الاصيلة ، فانها لا تجد حلها في ترقيعات مستعجلة او ثورية او اساليب ادارية متعالية ، بل تتطلب مشروعا وطنيا استراتيجيا يأخد كل المعطيات و المخاطر و التحديات بعين الاعتبار ، على ان يظلنا جميعا شعار (الوطن فوق الجميع ) كشعار للمهمات الوطنية الصعبة القادمة ، و ما قد تتطلبه من تنازلات

(قد تكون مؤلمة) من اجل وطن مختلف ...

و لهذا ، فان الكتابة المطلوبة في التاريخ الحضرمي في ظل ازمته المزمنة تلك ، لا تتطلب فقط المنهجية العلمية ، بل و تتطلب ايضا المعرفة و الدراية الواسعة ، اي بمعنى آخر ، ان تلك الكتابة المطلوبة لابد لها أن تلتزم بالجانبين : التنظيمي المنهجي و الجانب الفكري الثقافي حتى يمكنها اختراق سديم ذلك المشهد الكئيب السائد .....، و لهذا فهي لا تقبل بأي حال من الاحوال جرأة الحصان الاعمي التي تلزم عن الكتابة غير المنهجية في اصدار احكامها ... بل و نظرا لكثافة المجهول من الحقيقة الحضرمية و تعدد الحجب التي اسدلها الاخلاف حولها ، فاني أكاد القول : ان الحد الادني من الكتابة التاريخية المطلوبة ، هو ان تصيب هدفا لم يصبه أحد ، و حدها الاعلى ان تصيب هدفا لم يره احد . و أما خلاف ذلك ، فلن يضفي الا مزيدا من القتامة و البؤس على مشهد اسس بنيانه على كآبة التناقضات و عدم التناسق و الاتساق ......

لا يفوتني هنا ان اشير الى مفهوم (السقطات) الذي اعتمدته هذه الدراسة ، فقد تعامل معه البعض على انه يعني (زلات اللسان) التي لا يعتد بها ، هذا الفهم السطحي الساذج يدل على غياب العلمية عند القائلين به ، ذلك ان مفهوم (السقطات) في علم التاريخ يعني (التراجعات ) عن مقولة اساسية لهذا المؤرخ او ذاك ، و على هذا المعنى تأتي كل استشهاداتنا بسقطات رعاة و دعاة الرؤية السائدة او مؤسسيها ، و هي اساس تناقضات تلك الرؤية التي اخرجتها من الدائرة العلمية ....

كما ان هناك من رفض اعتماد (الادب) شعرا و نثرا كمصدر من المصادر التاريخية ، و لست في حاجة الى القول ان هذا الرفض يعد فضيحة علمية ان صدر عن اكاديمي متخصص ، و لا يعذر الناكر حتى من العوام ، لشهرة الاستشهاد بالادب حتى في حياتنا اليومية ، و قيل قديما : الشعر( ديوان العرب ) و هو الذي حفظ لنا اليوم الاحداث التاريخية و طبيعة حياتهم و ظروف معاشهم في الجاهلية و الاسلام ، و في كل الاحوال ، فالبقايا الحيوانية و الحجرية و النباتية و المخطوطات و الادب و الرسائل السياسية و القنصلية و الصور و الرسومات و النقود كلها وثائق ، و لا توجد وثيقة مجردة ، اذ انها كلها متميزة اذا احسن المؤرخ فهمها و استخلاص حقائقها ، و لهذا ، فلا وجود للمؤرخ (المطلق ) الذي يحسن فهم كل الوثائق .....

و لقد تمنيت في مقدمة الطبعة الاولى ، ان ارى مشاريع رؤى اخرى تعقب رؤيتي هذه ، غير ان امنيتي تلك لم يكتب لها التحقيق ، فظل مشروع رؤيتنا هو سيد الموقف المعارض و المخالف ، و رغم ان ذلك يصب في صالحه علميا ، الا ان ذلك الامر يدل على ضيق و ربما جدب الميدان العلمي و الاكاديمي و الثقافي و عجزه عن مواكبة القضايا الوطنية قبل القضايا العلمية ، باعتبار ان ( ازمة ) التاريخ الحضرمي ، قد بلغت حدا الى الدرجة التي يمكن اعتبار ضرورة اعادة قراءته و كتابته كقضية وطنية من الدرجة الاولى و لا تقبل الاهمال او التأجيل ، كما أن الاصرار على اعتماد الرؤية السائدة لابد ان يعني انتصارا و تغليبا لعوامل أخرى من المؤكد انها ليست علمية و ليست وطنية ......

فليس مقبولا و لا معقولا ( في الحالات السوية ) ، ان نرى مثل هذه الرؤية و هي تنسف المعهود المتداول على مستوى التاريخ الوطنى ثفافيا و اكاديميا ، دون ان تعقبها ردود فعل تنتقدها او تؤيدها ا و تستفيد منها او تبني عليها ، كل ذلك لا يحدث الا في حالة وجود ( ازمة ) في الوعي الوطني او العلمي او هما معا ، ذلك انه من المعيب على العقل العلمي الحضرمي ، ان تسود تلك الرؤية – على عيوبها القاتلة – الى اليوم ، دون ان تمسها رياح النقد و النظر العقلي ، و كأني بالقوم قد اقاموها مقام ( المقدس ) و تحريم المساس بها او الاقتراب منها ، أو كأني بالقوم هم انفسهم لم تمسسهم رياح (العقلانية ) ، فظلوا حبيسين اساليب التفكير العقيمة البالية التي احترقت في اتون عصر (التنوير) منذ قرون خلت .

هذه الحالة السكونية التي تمكنت من (الثقافة الوطنية) و التي ظهرت في شكل الجمود على الموجود ، هي نتيجة طبيعية لمجتمع يعاني من (العنف الثقافي الرمزي) منذ قرون خلت ، فكان من ألزم نتائجها قدرة الغالبين على حجب أي تعسف ناتج عن نتاجاتهم الثقافية ، و اظهاره على انه شرعي ، و على المجتمع ليس فقط القبول به ، بل و ايضا الترويج لشرعيته ، و هو الامر الذي يظهر في حالة (اللاوعي) التي تسيطر على عقلية المثقفين بصفة خاصة ........

و في ظل هذه الحالة السكونية ، يأتي مشروع رؤيتنا هذا ، ليشكل تمردا علميا و معرفيا (ابستمولوجيا) يطمح الى أن تتأسس عليه ثورة نقدية في الكتابة التاريخية الحضرمية .

و لعله من المفيد هنا ان نذكر بعضا من سمات المجتمع الذي يعاني من العنف الثقافي الرمزي ، نذكر منها ما يلي :

1- السعي من أجل التقليل من أهمية أي انجاز علمي او ابداعي يحققه الآخر المختلف معه ، حتى و لو نال ذلك الانجاز اعجاب و تقدير الاغلبية المثقفة .

2- تسخير الاعلام للتشهير و القمع اللغوي ضد الآخر المختلف .

3- تسيير المشهد الثقافي بواسطة عناصر قيادية تنتمي في تكوينها الشخصي الى ما يمكن ان يطلق عليه (المثقف الجاهل ) ، و هو الذي يفرض المسلمات التي لو انتبهنا اليها و فكرنا فيها ، بدت لنا غير مسلم بها ، و هي مسلمات تجعلنا نعتبر الظواهر التاريخية الثقافية ذات طبيعة سرمدية أو نظاما عابرا للآزمنة ، و هو اشد انواع العنف الثقافي الرمزي .

و لهذا ، فان المسألة الحضرمية في كل حلقاتها ، تتطلب رجالا من عيار ثقيل و ذوي عزيمة نضالية عالية ، لا تلههم صغار المكاسب و لا تفل حدهم كؤود الصعاب ..............

و لازال الامل كبيرا ، في تجاوز ذلك القصور في ردود الفعل تجاه مشروع هذه الرؤية ، على اني ارى ان المنشود ليس رهن الطلب اليوم ، و لكن من المؤكد الذي لا لبس و لا شك فيه ، ان ذلك المنشود سوف يرى النور في مستقبل الايام لا محالة ، و سوف يصدر احكامه علينا و على زماننا هذا .

و حول المنهج العلمي المتبع في هذه الدراسة ، فان ذوي الثقافة المنهجية العلمية ، لابد ان يدركوا انه منهج التحليل البنيوي المستند على المنهج الفرضي الاستنباطي كما شاده الفيلسوف كارل بوبر ، حيث ان تحليل (البنية ) يحتاج لا محالة الى (الفرض )، كما انه يحتاج بالضرورة الى (منهج بحث) ، فوجدت ان المنهج الذي يناسب دراستي هذه ، من حيث شحة المعلوم و زحمة المجهول ، هو (المنهج الفرضي الاستنباطي ) ، فمن خلال تعاضد هذين المنهجين (التحليل البنيوي و الفرضي الاستنباطي) تم اولا تفكيك البنية السائدة في الكتابات التاريخية الحضرمية (السيادة المبكرة للاعتقاد السني ) و بيان تناقضاتها الفجة و المسيطرة التي أخرجتها من دائرة العلمية ، كما تم اشادة البنية الجديدة (سيادة الاباضية و الاعتزال حتى العصر الحديث ) الذي ترافق مع تفكيك بنية الرؤية السائدة ، لان استمرار السيادة الاباضية الذي ترتب على ذلك التفكيك يلزم عنه استمرار المذهب المعتزلي ايضا ، لآن الاصل تزامنهما معا تاريخيا في المناطق الى سادت فيها الاباضية ، هذه الاستمرارية هي مشروع رؤيتنا هذه ، كما تم اشادة نماذجها الداخلية و الخارجية ( الوقائع و الاحداث و الافكار و الشخصيات) ، و لست في حاجة الى القول ان تلك النماذج تلزم عن البنية ، غير انها لا تملك ان تؤثر فيها ، فتلك هي طبيعة و خاصية التحليل البنيوي . و بمعنى آخر ، فانه من الممكن توجيه النقد لاي من تلك النماذج او حتى تقويضها ، و لكن من المستحيل اعادة الحياة للرؤية السائدة السابقة من خلال انقاذها من تناقضاتها التي تأسست عليها و شكلت صميم بنائها ، و هو الامر الذي يعني صحة مشروع رؤيتنا القائل باستمرار دور الاباضية و الاعتزال حتى العصر الحديث.....

16 مارس 2016م

حضرموت

 

باحث و مؤلف الكتاب اعلاه المحتوي على مشروع الرؤية موضوع هذه الورقة .

 

الحلقة الأولى : أضغــــــط هنـــا