لم يستوعب أحد بعد كيف ستسقط صنعاء بإمتداداتها القبلية الكثيفة وبطبيعتها الضارية، وكيف تتم السيطرة الكاملة عليها وتأمينها وتطبيع الأوضاع فيها وإعادة "الشرعية" إلى قصورها!. هل سيتبخر الحوثيون ويلجأون إلى كهوف مسحورة؟، وهل يستسلم الرئيس السابق ويُدخل ثعابينه إلى جحورها، ثم يلوّح بيده من على سلم الطائرة ويقول "مع السلامة يا شعب الجن"؟ وهل يخلع حرسه الجمهوري الميري وينصرفون لتربية المواشي ولفلاحة الأرض، ويغير جيش الموالاة طرابيشه؟، وهل تعود القبائل المؤيدة إلى قراها في موقف باذخ الرومانسية الحريصة على الأمن والمحبة، فتتعانق الطوائف والأحزاب وتتدثر البلاد بغيمات كريستالية واجواء شاعرية يسودها السلام والأمان بعد حسم "أم المعارك" !!!.
أسئلة كبيرة ومشروعة لا تجد اجابات شافية.
نموذج عدن وما يحدث لها بعد تحريرها بأكثر من نصف عام ، يثير بالتأكيد رعب كبير بين سكان المدن والقرى في الشمال بكثافتها البشرية والتعقيدات الكبرى بداخلها، حيث التنوع القبلي والطائفي والحزبي والمليشياوي... ولا يغرنك عزيزي القارئ ما يسوقه بعض الكتاب العباقرة بأن صنعاء أو غيرها هي أرض تقع في الدرع الإسكندنافي وستتحول إلى بحيرات بجع وديع بعد التحرير، وأن الإرهاب هو من اختصاص عدن ومحيطها الجنوبي لأنها، حسب هواهم ونظرتهم الاستعلائية، بيئة للارهاب ومقاومتها شلة من الحمقى، إلى آخر الميلودي الذي تبثه أوركسترا الاقلام المستعرة.
لقد مسحوا من ذاكرتهم العمليات الإرهابية الكبرى في صنعاء بعد ثورة التغيير.. في ميدان السبعين وسط كتل منظمة من الضباط والجنود، وفي مستشفى العرضي كأنه مشهد هوليوودي مرعب، وفي أماكن لا حصر لها بالإضافة إلى الإغتيالات اليومية، بالرغم من وجود الجيوش والأمن بمسمياته المختلفة.. المركزي والقومي والسياسي، ووجود الأحزاب وكتل الثوار وقادة الفكر الأجلاء، يتناسوا كل شيء لأن الأمر الآن يتعلق بعدن والجنوب.
مدارس وجهود صانعي الإرهاب والفوضى معروفة منذ وقت بعيد، وأهدافها في عدن والجنوب لم تكن خفية منذ التسعينات، وكانت تعد العدة لهكذا وضع، وكان يمكن مواجهتها وإحباطها لولا أنه بعد تحريرعدن تم إهمال المقاومة مع عزوف الرئآسة والحكومة والتحالف عن مباشرة العمل بخطوات مدروسة منذ يوليو العام الماضي.. وهذا السيناريو العدني بقسوته سيكون مئة مرة أخف مما يُتوقع أن يحدث في المدن الشمالية، المكتظة بالصراعات والاحتقانات التاريخية، لو سقطت وتُركت للفراغ مثلما تُركت عدن، وبالطبع لا أحد يتمنى ذلك لأن كل المدن في الجنوب والشمال عزيزة جداً.
جراح عدن تظل مفتوحة وتتوسع وتعطي إشارات مخيفة للآخرين، وهذه هي الحقيقة المرة بعيدة عن ألوان الكلام، ومختلفة عن أصوات الشامتين الساعية إلى التوظيف الإعلامي لما يحصل في عدن لضرب مقاومة الجنوب ورموزها. نعم هناك من ينتقد أداء المقاومة الجنوبية بأطيافها، لكنها في الأخير ليست جيش منظم وموحد ومهيكل، وليس لديها أي مصادر، فقد نشأت في خضم المعركة وقاتلت مثلما لم يفعل غيرها حتى الان، ولم تحارب بالوكالة أو من أجل السلطة، بل من أجل قضية تؤمن بها.. لهذا تُركت وأُهملت تماماً وسط فراغ الدولة والسلطة وأجهزتها.
وخلاصة القول هو أن التحالف العربي لا يملك خطة مدروسة وجاهزة لمرحلة ما بعد الحرب لا في الشمال ولا في الجنوب، ومع إدراك العالم بأن اليمن لن يعود مثلما كان، إلا أن الغموض الموحش هو سيد المشهد، فلا شيء مسموع في هذا الفراغ المعتم سوى ترديد الموشحات الموفمبيكية ومواويل مخرجات حوار العشاء الأخير، وما يزال بازار الأقاليم شغّال حسب البورصة السياسية.
لقد أظهر اختبار عدن (حتى الآن) أن التحالف العربي له مهمة واحدة، وبعدها "يفتح الله"... ومع هذا نتمنى أن تثبت الايام والشهور عكس ما نقول، مثلما "نشطح" بالتمني بأن تكون هناك مقاربة سياسية إقليمية دولية لوضع حلول دائمة قابلة للحياة في الشمال وفي الجنوب، وهذا طبعاً يحتاج إلى ألف طن من التفاؤل على أقل تقدير.