شيخ عُماني يطبع ديوان شعر في أوساكا باليابان عام 1937 ديوان أبو الصوفي العُماني في مملكة الجابان
مع بدايات عام 1937 حزم الشيخ العُماني الورِع آل سعيد العماني الأزدي صندوقه الحديدي الكبير وملأه بالأغراض والثياب والحاجيات المهمة، وتوكل على اللَّه وركب أول سفينة تجارية تغادر مسقط إلى الهند.
وبجانب الفرح الغامر الذي اعترى الشيخ الأزدي والسفينة تبحر في خليج عُمان، كان يشعر بأن أحلامه التي تأجلت طويلاً في السفر قد بدأت ترى النور والبحر أيضاً.
فقد كان الشيخ العُماني ينوي السفر منذ فترة طويلة إلاَّ أن ظروفه لم تساعده، ثم زادت وشاغلته «الأمراض الحسيّة والجسمية» كما يقول، فعجَّلت من تصميمه على السفر من عُمان؛ الوطن العزيز، والسير في الأرض والتنقل لاكتساب الصحة والخبرة في ما يختاره اللَّه له.
ووصل الهند بعد أسابيع وبقي فيها بعض الوقت للتداوي، وحالما انتهى وجد نفسه بعيداً لكنه نشيط أيضاً، فلم يفكر طويلاً فقرر السفر والسياحة في بلاد اللَّه الواسعة.
فبعد بعض بلدان آسيا مثل بورما وملايو وغيرهما زار الصين ومكث فيها بضعة أسابيع غير أنها لم تعجبه على ما يبدو.
كان من المفترض بعد الصين أن يعود الشيخ آل سعيد العُماني أدراجه إلى الهند مكان سفره الأول وملتقى السفن المُبحرة إلى عمان حينما يريد العودة، غير أن الشيخ الأزدي غيّر رأيه فجأة بعدما سمع الكثير من الحكايات والأخبار عن جزر كبيرة وجميلة تدعى «مملكة الجابان».
ولم يستغرق التفكير عند الشيخ وقتاً طويلاً بل حزم صندوقه الحديدي مرة أخرى وشد الرحال وغادر الصين إلى «الجابان» أو ما تُسمَّى اليوم: اليابان.
فرح الرجل باليابان، وزاد سروره فيها أنه وجد ما يتمناه من «مناسبة الطقس بفصوله لصحتي وفاقه لخلو البال، ولو أنه لم يخل إلى الممات مما انغرست فيه».
وبعد الصحة والطقس الجميل في اليابان طابت الإقامة للشيخ الأزدي العُماني في هذه الجزر البعيدة عن بلاده عُمان مئات الأميال.
وعند انقضاء بضعة شهور على إقامته في مدينة أوساكا خطرت له خاطرة جميلة لكنها خطيرة وحضارية أيضاً.
الخاطرة كانت طباعة ديوان لشاعر عُماني اسمه «الشيخ الورع المحترم سعيد بن مسلم العُماني المسكتي... أحد كُتّاب الحكومة السعيدية العُمانية بمكست». أما الديوان فهو عن «الشعر العُماني المسكتي في القرن الرابع عشر للهجرة النبوية»، واسم الديوان ديوان أبو الصوفي .
وبالفعل، أخذ الشيخ الأزدي الديوان بعد أن عرف أن في مدينة أوساكا اليابانية دار طباعة ونشر عربية يمتلكها رجل اسمه منصور بن سليمان مرعي الكثيري الحضرمي اسمها «دار الطباعة الإسلامية العربية»، وكلها أسابيع حتى ظهرت نسخ الديوان وبدأ البيع بثمن لكل نسخة حُدِّد بقرش ونصف قرش فقط.
ويشرح الشيخ العُماني في تقديم الديوان الذي عثر على نسخة منه الباحث البحريني مبارك العماري، أسباب طباعة هذا الديوان ونشره، قائلاً:
فعزمت على تحقيق هذه الخاطرة بالفعل بإرادة اللَّه، فشمّرت عن ساعد الجِدّ، وليس القصد نشر المديح، لا وربّ الكعبة لا، ولكن القصد كما ذكرت، ولهذه الكلمات عسى يكون لها قبول، وهي حثّ رجال الوطن الكبار الأغنياء الميسورين الذين ينفقون أموالهم على غير معنى في هذا العصر للضيوف والضيافات التافهة في غير مواجيبها ولمجالس العزاء التي تُقام فيها الموائد، وحفلات الزواج، وتدوم تلك الحالة أو تلك المصائب إلى أشهر من بعد موت الميت حتى لا يبقى لورثة الميت شيء وربما يركّبون على أنفسهم ديوناً على هذه البدعة. فمثلاً لو ثُمن من تلك الأموال تتجمع بالاشتراك وتطبَع بها دواوين شُعراء عُمان القدماء والحديثين وتُنشر، لهبّ أهل عُمان بكل اشتياق لاقتناء شعر شعرائهم وأدباء بلادهم، ولتناقلتها الأيادي في الأقطار والبلدات (البلدان) المجاورة، ولتبقى محفوظة في خزائن المكاتب في الممالك، أليس الأمر كذلك؟ لا، بل أحسن وأفضل من أن يموت الشاعر والأديب العُماني ويموت شعره وذكره معاً! إلاَّ من كانت معه نسخة من ديوان شعر أحدهم فهو محافظ عليها بين أثوابه لا أحد يعلم بها إلاَّ اللَّه، والجرذان تأكلها!».
ويكمل الشيخ الأزدي تقديمه للديوان:
وإني أعلم أن بعض كلماتي تغيظ «الجامدين» عندنا كما يسمونهم في هذا العصر، ولكن عسى بعد حين ليكونوا أكبر مساعد في ما نبّهت عنه في مشروعي. وفي هذه الأيام والزمان من أسهل الأشياء مسألة طبع الكتب بثمن رخيص وأخف من طبخ العيش. أما تعلمون ذلك؟ فقد بيّنت لكم هذا السر، ففي أي مملكة بالأقطار المتمدنة حيث بها العلوم وأهلها والفنون العصرية والمعارف والمدارس، فهذه مصر أقرب وتلك الهند وهذه اليابان، تطبع فيها الكتب العربية بأرخص ثمن.
ثم يوجّه الشيخ نداءً جريئاً يقول فيه:
أيها الأدباء المسكتية (نسبة إلى مسقط) العُمانية، أيها العلماء الأفاضل في داخل القطر، نبّهوا القادة من (ممن) لهم شعور لهذا الذكر الحميد، واطلبوا من الرؤساء والأغنياء طبع الدواوين الشعرية التي ليستغني بها القطر العُماني عن قراءة كل ديوان قديم أو جديد لغير الشعراء العُمانيين. وأنتم أعلم مني لما في الشعر من الحكم وتاريخ وفوائد الفصاحة والمواعظ والصبر. وفي شعر شعرائكم من البلاغة والأمثال ليس بأقل من غيرهم (إن من الشعر حكمة) فهبوا وتجرأوا في بيع أموالكم في بلادكم لأبنائكم لكي يتعلموا الأدب من أدبائكم الأفاضل، ولا تقولوا الشاعر الفاني أكثر من شعره المديح أو هذا من تلك البلدة أو من تلك القبيلة أو في عصر ذاك السلطان أو في زمان ذاك الإمام، أو هذا هناوي أو ذاك غافري نزاري أو هذا عبد الأصل ليس عربي النسب. لا، بل انبذوا مثل هذه الكلمات وراء الظهور، واقتدوا بغيركم من الأمم المنتبهة للحياة في هذا الزمان لمثل هذا العمل والذكر المحمود، ومنه لربح المشتركين في بيعها إذا طُبعت وليس في ذلك خسارة.
ويتحدث عن اتصاله بشاعر الأسرة المالكة السعيدية وهو الشيخ المكنَّى بأبي الصوفي سعيد بن مسلم بن سالم المجيزي السمايلي، وتكليفه بجمع ما نظمه من الشعر، واستجابته له. ويقول عن هذا الشاعر إنه في صباه كان كاتباً صغيراً لسيف دولة سلطان مسكت فترقّى بأدبه وأمانته إلى أن نال بجده وحسن خدمته المقام الأرفع، وأصبح كاتباً وسميراً ومحل ثقة السلطان السيد فيصل بن تركي.
ثم يقول إنه أسمّى الديوان الشعر المسكتي العُماني في القرن الرابع عشر للهجرة النبوية، ويكمل: «وتسنَّى لي طبعه في المملكة اليابانية ببلدة أوساكا التي هي أعظم وأهم بلدة بعد العاصمة. وقد تمّ الطبع في سنة ألف وثلاثمئة وست وخمسين للهجرة، مطابق سنة ألف وتسعمئة وسبع وثلاثين ميلادية، بمطبعة «دار الطباعة الإسلامية العربية»، لصاحبها منصور بن سليمان بن مرعي الكثيري الحضرمي».
ويُعتبر هذا الديون سجلاًّ تاريخياً لعُمان وحوادثها، فكل قصيدة فيه مؤرَّخة بتاريخها ومناسبتها. فالقسم الأول من الديوان قصائد خلَّفها تيمور بن فيصل ويسجل فيها تحركاته وزياراته الداخلية والخارجية، عدا القصائد الأخرى في الأغراض المختلفة.
وعندما نبدأ في تقليب صفحات هذا الديوان العربي المجهول المطبوع في اليابان في تلك الفترة البعيدة، نراه يشرع أولاً في مدح السلطان فيصل بن تركي ومتحدثاً عن بناء قلعة صور عام 1319هـ:
ما كلُّ من ملك الثراء يجود
كلا ولا كلُّ الرجال تسود
ما كلُّ من طلب السباق بمدرك
شأواً ولا كل البروق تجود
وفي الديوان أكثر من مرتبة للسلطان نفسه الذي توفي عام 1331هـ، وله قصيدة نظمها بمناسبة عودة سلطان عُمان آنذاك تيمور بن فيصل من أوروبا.
ومن قصائد ديوان أبي الصوفي للشاعر سعيد بن مسلم الطريفة، قصيدة نظمها حينما جلب الهاتف إلى قصر السلطان فيصل في عُمان عام 1328هـ (حوالى 1929 ميلادية)، لأول مرة، فراح يصف الهاتف ويعرض ترقّي الأوروبيين في استنباط العلوم والاختراعات وانحطاط العرب عن درجة أسلافهم، وقال فيها:
من دارة العلم يبدو طالع الحِكَم
لولاه ما خطت الأقلام بالكلَمِ
قد طار ذو العلم فوق النجم مرتفعاً
وانحط ذو الجهل بالقاعات والتخمِ
لا يمتطي المجدَ بطّالٌ ولا ضجِرٌ
فالمجد بالجِدّ ليس المجد في السأَمِ
من طال بالعلم يوماً طاب مسكنُه
يا مزنة العلم هلاّ رشفة بطمي
وقال أيضاً:
ما ظن ذو بصَرٍ أنَّ الجمادَ له
نطق به تصلح الحيطان بالنغَمِ
حتى ترفَّع ذاك التلفون على
عرش الخلافة يشدو ناطقاً بفَمِ
من عهد آدمَ لم نسمع به أبداً
كلا ولا سمعت أذناي من أرمِ
أجزاء قد رُكِّبت، أجزاء قد حملت
روحاً من البرق لم تنفخ بذي رحمِ
أسلاكه سلكت طُرق الهدى ورقت
أعلى المراتب بيت المجد والكرمِ
قد حلّ مرتقياً بالعز في حرم
فامتد من حرم سعياً إلى حرَمِ
وفي قصيدة أخرى أسماها «القصيدة التاريخية في السياحة الظفارية» منها:
لذكرى ليالي الوصل يستعذب الذِّكرُ
ويحلو وإن طال التباعد والهجرُ
فيا ذكر ليلى شنّف السمع موقراً
أحاديث من ليلى يذوب لها الصخرُ
ويا سعد علِّلْني بذكرى أحبتي
فعندك يا سعد الأحاديث والذِّكرُ
ورتِّلْ حديثَ الحب يا سعد أنني
لقد عزّني سعد التجلد والصبرُ
فنيت هوى لولا التأمل باللقا
ولولا أماني النفس ما عمَّر الدهرُ
سهاد إذا جنَّ الظلامُ رأيتني
أراقب عين النجم أو يشفع الفجرُ
أكفكف بالمنديل دمعاً كأنما
بعينيَّ والمنديل يلتطم البحرُ
ومن لي بأن ألقى حبيباً إذا بدا
لطلعته تخبو الكواكب والبدرُ
تسلّط في قلبي بسلطان حبه
فبحت بما تخفي الجوانح والصدرُ
كذلك سلطان الغرام وحكمه
برغم جنود العشق يقضي له الأمرُ
وبطبع هذا الديوان في مدينة أوساكا في اليابان، أكمل الشيخ العماني الجليل والورِِع آل سعيد العُماني الأزدي، مهمة لم يحققها إلاَّ عرب قلائل.
فقد سافر الرجل لعلاج نفسه فوجدها فرصة للسياحة. ثم أغراه الطقس ببلاد جميلة لم يطأها عرب كثيرون قبله وهي اليابان، ثم قام بمهمة حضارية وثقافية عظيمة وهي طبع ديوان لشاعر مهم من بلاده: عُمان، في بلد بعيد جداً. أما الأهم، في رأيي، فهو النداء القوي لأهل بلاده والعرب عموماً ودعوته إلى الرقيّ ونبذ التخلّف.
فشكراً لك يا شيخنا الجليل!
*- مكتبة ن