في رحاب الوادي : بوفتيله بين المحضار وبن حماده

2015-12-26 16:54
في رحاب الوادي : بوفتيله بين المحضار وبن حماده
شبوه برس - خاص - غيل بن يمين

 

هذا أحد المقالات التي أفرزتها رحلتي إلى منطقة ظبق هزاول في يوم الخميس 2015/7/23م و التي استمرت إلى يوم الأحد 2015/7/26م وقد كنت قاصدًا زيارة و معاودة أبي عمر الشيخ كرامة ابن عمرو بن حمادة الثعيني، و أيضًا الأستاذ محمد عيظة الثعيني وابنه مصطفى فكان منهم من الكرم وحسن الضيافة ما تعجز اللسان عن وصفه، فجزاهم الله خير الجزاء في الدنيا و الآخرة، وأثناء وجودي هناك كنت كثير الاستئثار بالشيخ كرامة في أجواء هادئة بعيدًا عن مجلسه في مدينة الريدة الشرقية والذي لا يكاد يخلو من الزوار حتى يغص بهم مرة أخرى، فكانت فرصة بالنسبة لي لا تعوض و الجلوس مع أبي عمر لا يخلو من الفوائد في مجالات شتى، ولم أكن أتوقع في ذلك اليوم بأنني سأثيره لقول الشعر رغم عزوفه عن القول في الفترة الأخيرة إلا فيما ندر، بدأت القصة يوم السبت بعد رجوعنا من عزيمة (مصلح بن صالح الهزيلي) إلى بيت أبي عمر الواقع على مرتفع الضفة الشرقية، حيث جلسنا في الغرفة المقابلة للجهة الغربية من الوادي، فلاحت لنا النخيل وكأنهن الغواني نفشن جعودهن ذات الأطراف الذهبية تتباهين بكامل زينتهن، و جبل العلك يقف خلفها شامخا، فكانت الجلسة جميلة جمال الوادي و أهله، وبما إننا عازمون على النزول للوادي بعد صلاة العصر، لقصد الرماية بالبندق (أبوفتيلة)، وأردنا التجهيز لذلك، أظهر لنا الشيخ كرامة بندقيتين نوع أبوفتيلة الأولى (سلكة قتب وقرية- مغربي روم) وهي أول بندقية يتسلبها وهو ابن اثني عشر عاما، ولا تزال بحالة جيدة، أما البندقية الثانية هي (صميل العركة-مغربي روم) وهي التي أثارتني فأثرته وخاصة بعدما عرفت بأنه اشتراها قبل شهر، وأنا أعلم بأنه يمتلك أكثر من عشرة بنادق نوع أبوفتيلة مختلفة أسماؤها، فقلت له يا شيخ عندي لك صورة تظهر فيها واقفًا وممسكًا في يدك اليمنى بندقيتك السلكة، وقد اعتلت جميع تفاصيل و جهك الابتسامة والرضاء ولا لوم عليك في ذلك، فهي أول أسلابك، ورفيقة دربك منذ صغرك، وتربطك بها ذكريات جميلة.. ولكن أن تشتري بندقية فوق الذي معك هنا الإشكالية!!

 

وهذا النوع من الأسلحة مذموم، ألم تسمع أبا محضار في إحدى قصائده يقول:

لي رتبوا في رسب و السفيلة

بأسلاب بلجيك محد معه بوفتيلة

بعض السلب زين ماشي مثيله

تسمع قروحه و لا تنكر الدخان

 

فاهتز الشيخ الثعيني من تلك الكلمات، و كأنه يسمعها لأول مرة، وبدت علامات الاعتراض من تقاسيم وجهه، فدندن بصوته الشاحب الذي لا يخلو من نبرات الشيب، وماهي إلا دقائق حتى قال:

قـد شيّدوا في الـروام الدويلة

باروتها قـرمزي بالمعابـر تكيله

ورصاصـها في المصاب الجليلة

لي ترد كيد الذي في عهوده خان

 

لقد أفصح الشيخ كرامة عن رأيه بوضوح، وهو أن بنادق أبوفتيلة لا تقل شأنا عن غيرها من البنادق المتأخرة، وأن بها من الأوصاف ما يجعل محبيها يتغنون بها، وأنها كانت ذات فعالية وسطوة بين القبائل المتناحرة في تلك الأزمان الغابرة، هذا ما اتضح لي من خلال شعره، ثم تحدث الشيخ كرامة عن صميل العركة وعن مالكه وهو سعيد بن مريّم من بيت برح من المغادرة من بني عجيل، و الدور الذي لعبه أثناء الصراعات القبلية و بهذه البندقية، حتى إنهم قالوا فيه الشعر بعد رجوعه منتصرا من إحدى المعارك التي خاضها وحيدا بين أعدائه فقتل منهم بعضا و أصاب آخرين، فقيل فيه:

سيل سعيد بن مريّم لاقى سريّة

سيّل ظراك و شـعــاب الصفية

 

وبالرجوع إلى المصادر التاريخية لمعرفة تاريخ دخول بندقية البوفتيله إلى حضرموت سنجد أن أول دخول البنادق لحضرموت في أوائل القرن العاشر، كما ذكر ابن حميد الكندي في كتابه المسمى بالعدة المفيدة- في أحداث 926هجرية، وقال الشاطري في كتابه أدوار التاريخ الحضرمي - في حديث مطول يمتدح فيه السلطان بدر أبو طويرق إلى أن قال - وقد جلب له - (أي بدر أبو طويرق) - ضباطا من الأتراك و جيشا صغيرا خاصا منهم مجهزا بالبندقيات التي لا عهد للحضارم بها و كان للجيش و السلاح الجديدين أكبر الأثر في انتصاره و إضعاف معنوية خصومه- إلى آخر كلامه، وورد في كتاب (الآداب المحققه في معتبرات البندقه) الكثير من الأوصاف لهذه البندقية ولا يسعني ذكرها في هذا المقام، ولكن نقتطف منها شيئا لتكتمل الصورة ففي حديثه عن دخولها لحضرموت يقول: ((أدخل الترك البندق الرومي إلى حضرموت في 936هـ -1519م معاونة لبدر بو طويرق في حربه ضد قبائله، ومنافسيه من قرابته ،ويسمي بالبندق الرومي))، وأيضا ننقل جزءًا مما نقله عن ابن هاشم في وصفه لهذه البندقية حيث قال: ((والذي زاد في رعب أهل حضرموت، هو ما يحمله جيش الأتراك مع بدر بأيديهم، وعلى أكتافهم من الاختراع الغريب في ذلك العهد، وما يسمعه الناس من الصوت المزعج الذي يصم الآذان خارجا من فم تلك الآلة القاتلة، وهو اختراع جهنمي ليس لحضرموت عهد بمثله قبل قدوم جند الأتراك به، ذلك هو بندق (أبو فتيل) فكان لظهوره دوي عظيم بين كل الطبقات أكثر بكثير من دوي حديث القنابل في هذه الأيام.))، وبغض النظر عن الاختلاف في تحديد العام الذي دخل فيه أبو فتيلة حضرموت أفي 926هـ أم في936هـ نترك ذلك للباحثين للفصل فيه، ولكن لا يثنينا تركه عن القول أن بندقية أبو فتيلة أوشكت على الانتهاء من القرن الخامس عشر منذ أن دخلت حضرموت، لذلك لا يسعني غير القول: " لا تبن صروح مجد على حساب هدم الآخر".

كلمة شكر: أوجهها لأستاذي الباحث والمؤرخ الفاضل الشيخ عوض سالم حمدين الذي سخر مكتبته لكل من أراد البحث، فجزاه الله عني خير الجزاء وأطال عمره وجعله ذخرًا للمشقاص وأهله.

المصادر:

1-العدة المفيدة المجلد الأول ص164

2-أدوار التاريخ الحضرمي الجزء الثاني ص 237-238

3-الآداب المحققه في معتبرات البندقه -ص 32

 

*- أبو الهشم خالد سالم الغتنيني

 

 الشيخ كرامة ابن عمرو بن حمادة الثعيني