في كل عام حمل شتاءُ الضالع الضبابَ إلى الأعالي والمنحدرات والسهول، حتى أنه في أيام ذروته وفي الصباحات البيضاء كان يحجب عن عيوننا الصغيرة وجهتنا، المدرسة الإبتدائية، ونحن نسير مرتدين طبقات من ملابس ذلك الزمن المتأنق بالبساطة الجاذبة، قمصان فاتحة وبناطيل باللون الكاكي الهادئ وأحذية بسيطة مصنوعة من الأقمشة والمطاط، وبحوزتنا الكراريس المعشّقة بنمنمات من أحرفنا الاولى تزهو في حقائبنا على الاكتاف.. كان الضباب يضعنا عند كل صباح في أرض الحكايات المسحورة، نمتلئ بهوائه المشبع براذذ منعش، ويغشى وجوهنا بوشاح حريري مبتل، شديد النعومة، حتى أننا لا نكاد نرى أكفنا، وكأننا نسبح في غمام كوني تلتئم عنده الجهات حيث لا أحد غير الله وصغار الخلائق نحن، نطير بحمده كعصافير الدّنا الأولى.
كانت الضالع في عيوننا إحدى ضواحي كوكب الخُلد، تتخيل أنك بعد خطى قلية تساكن جنة الله، وتُمنح البهجة اللانهائية ومتعة النعيم حيث يتلاشى الخط الفاصل بين عوالم الطبيعة، وتبقى أنت غمامة صغيرة في ضباب مسكوب تسرح فوق السطوح وعلى أوراق الأشجار وفي الطرقات الترابية الصفراء والوهاد السرجية بين التلال المتجاورة، وفي الشقوق التي تنفتح كأودية ضيقة داخل الجسد الصخري وعلى مخابئ الينابيع البرية، وقبل كل شيء كان الضباب يملأ أزقة الروح بنشوة مشرقة، كأنما أُدخلتَ عبر نفق زمني إلى ملكوت مجرة نائية حيث تتنزه الملائكة الصغار.
الضباب منحةٌ سماوية كانت تُعطى كلَّ شتاء للطفولة البريئة التي عشناها... ثم كبرنا فجأة فكبرت فينا ال"نوستالجيا"، مرض الحنين والعطش للماضي.
سيقول الراوون بأن الضالع، على كل حال، بعد أن تبدد ضبابها الجميل تعرضت لشموس الظهيرة الطاغية المحرقة واعتصرتها رياح متتالية، ما أن تهدأ جهة حتى يندلع سعيرها من جهة أخرى. تبدل الزمان وتكاثرت الأجيال وتشظى القلب إلى أسراب من الآهات المتأججة، ومضت السنون وانحدرت أوجاعنا إلى قاع لا ضباب فيه ولا شجر حوله. تضاءلت الطبيعة وانكمش الإنسان وتغضنت ملامح الروابي، وهجرنا الشوارع والأسواق العتيقة وتنادت البيوت الأولى إلى مخاض صمتها. ليس ذلك فقط، بل توحشت بروق الصيف وتكبدت الفصول رحيل الأشجار، حتى ناهز العطش ليل الجفاف الرهيب.
هي حكاية أجيال تدافعت منذ عقود على صفيح الزمن الساخن، وبدلت جمال التطور الطبيعي المتصالح مع فطرة المكان والزمان والبيئة، بخدوش الشعارات الملتهبة والحرائق والرياح الجارفة حتى وجدنا أنفسنا بعد خريف طويل نبحث عن الماضي في أزقة الروح الذاوية.
تلك تُروى للاجيال، بعد أن دار الزمن دورته الكاملة، وأصبحوا قادرين أن يبددوا الدخان من عيونهم ويبدأوا بالبحث عن زمن الضباب الأول، تواريخ النقاء، ليصلحوا ما كسره الدهر.
الضالع ملخص جنوبي نقي، وضبابها أو دخانها يحدثان متغيرات في الجنوب لأنها تحمل القلب النابض في جوفها المتين، فإن تماسكت ونهضت بوعي جديد سيكون الجنوب معها في مأمن، وهي تسعى حثيثاً للوقوف وتشد معها كل الآخرين، وإن انحدرت انحدر الجنوب إلى هاوية، تنحسر الأبصار قبل أن تدرك قيعانها.