حين تتجوّل في شوارع مدينة "قرطبة" الإسبانية، ستجد على يمينك مدرسة Averoues، ومن أمامك جامعة Averroues وبعد برهة سيقاطعك شارع Averroues الذي ينتهي بميدان Averroues، وهلم جرّا.
أما Averroues فلم يكن ممثلاً أمريكياً شهيراً، ولا نجماً هدّافاً في فريق ريال مدريد. ولم يكن شاعراً إنجليزياً من القرن السابع عشر، ولا رساماً فرنسياً من عصر الرينيسانس تحتلُّ لوحاتُه قاعاتِ متحف اللوفر وتُباع مسروقاتُها بملايين الدولارات. ولا كان روائياً روسياً ولا موسيقاراً ألمانيًّا أبدع من السيمفونيات ما يستحق تخليده على هذا النحو اللافت في إسبانيا وفي مجمل دول أوروبا. إنما كان شيخاً مسلماً مثقفاً من القرن الثاني عشر اسمه: "أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد".
ولد هذا الرجل الاستثنائي في قرطبة الأندلسية بالقرون الوسطى، ومات منفياً حزيناً في مراكش المغربية، بعدما طُرد من بلاده كعادة ثقافتنا العربية التي تحارب الأذكياء الواعين وتحتفي بالخاملين المظلمين. كان طبيباً وفيزيائياً وفلكياً وفيلسوفاً وقاضياً، وكان عظيماً. لماذا احتفى به الغربُ؟ لأنه كان كلَّ ما سبق، ولأنه ساهم في نهضة أوروبا العظمى وصناعة إشراقتها حين شرح للأوروبيين فلسفةَ أرسطو التي طمرتها السنوات والقرون وكاد يطويها النسيان. ولماذا حاربه المسلمون ونفوه وحرقوا تراثه وأغفلوا سيرته حتى نسيه التاريخُ الإسلامي والعربي عمداً؟ لأنّه أيضاً كان كل ما سبق. فالعربُ تكره أن يخرج من بين جِلدتها الاستثنائيون الموهوبون العائشون خارج الصندوق الحديدي المظلم.
ذبحوا تاريخَه واغتالوا إرثه لأنه ارتكب الجريمة الكبرى التي لا تسامح فيها العرب ولا يغفرها المشعوذون. جريمته الكبرى أنه كان "يفكّر" و"يعقل" في مجتمع يكره التفكير ويمقت العقل. مقتوه لأنه قال: "الحقُّ لا يضادُّ الحقَّ. الدينُ حقٌّ والفكرُ والفلسفةُ حقٌّ. والحقّان لا يتضادان". فرماه الجهلاءُ بالكفر والزندقة وأحرقوا كتبَه النيّرة، وحرق هو بقية كتبه يأساً، حين أيقن أن مَن حوله لا يستحقونها.
سَلْ أيَّ واحد من التكفيريين الذين يُشهرون سيوفَهم في وجوهنا ويرفعون ضدنا قضايا الحسبة ويسجنوننا ويصادرون ما نكتب، سلهم: "هل تعرفون ابنَ رشد؟" الإجابة بالنفي. لكنهم بالطبع يعرفون أسماءَ جهلاء طبّقت شهرتُهم الآفاقَ يؤكدون أن الشمس تدور حول الأرض، وأن الأرض مستوية، فوقها السماء مستوية، وأن القمرَ نجمٌ منير!
ومرّت السنواتُ والعقودُ والقرون ووقفنا على رأس الألفية الثالثة. فهل تغيّرنا، نحن العرب، وكبرنا ونضجنا وبِتنا نحتفي برموزنا الفكرية النيّرة ونكرّم الطافرين الاستثنائيين ممن كسروا الصندوق الحديدي وغرسوا نبتَتهم في رحاب أرض الله تحت شمسه ونوره بعيدًا عن جحور الخفافيش وكهوف الظلام؟ أبدًا. نحن نحن! عصيون على التغيّر والتبدّل والنضوج. مازلنا نُشهر سيوفنا في وجه كل من شحذ عقله وأعمل فكرَه وانسلخ عن القطيع.
قبل يومين، 20 أغسطس، حلَّ عيدُ الميلاد السبعين لرجل استثنائي آخر من أبناء العظيم ابن رشد. اسمه الدكتور "فرج فودة". فهل تذكره أحد؟ هل احتفت به وزارة الثقافة المصرية؟ هل ضج الإعلامُ المصري والعربيّ بأفلام وثائقية عن هذا المفكر العظيم؟ هل أطلقنا اسمَه على شارع أو ميدان أو مدرسة، أو حتى قاعة مدرج في جامعة؟ أبدًا، لم يحدث. لماذا؟ لأننا نكره النجباءَ ونمجّد الأدعياء.
لكن شاعراً مصرياً وناقداً ومؤرخاً محترماً اسمه "شعبان يوسف" تذكّره وسط ملايين ممن نسوا. كتب بجريدة "التحرير" المصرية مقالاً ملهماً شديد اللهجة عنوانه:"فرج فودة وتجديد الخطاب الديني"، معاتباً الدولة التي تنسى رموز الفكر الإسلامي المستنير وأقطاب الإصلاح الديني، ثم تتشدّق كذبًا بأنها تعمل على "تجديد الخطاب الديني"، قائلا: “يموت المفكر أو يطرد من بلاده، فلا يجد تكريماً في حياته، ولا بعد رحيله، وها هو المفكر الإشكالي د. فرج فودة تحل ذكرى ميلاده السبعين والدولة التي تشجينا وتطربنا يومياً بقضية "تجديد الخطاب الديني"، لا تعترف بفرج فودة، ولا بنصر حامد أبو زيد، فحدث أن تم اغتيال الأول، وتم طرد الثاني وتشريده ونفيه ورحل، دون أن تعمل الدولة على الاحتفال بأيِّ منهما، وحتى الآن لا توجد مؤسسة رسمية من مؤسسات وزارة الثقافة تقدر على طبع ونشر الأعمال الكاملة لهذا أو لذاك."ثم طالب رئيس دار الكتب والوثائق ووزير الثقافة أن يقوما بدور يليق بسبعينية هذا الرجل العظيم. وذكّرَ في مقاله، مَن نسي، بأن فرج فودة كان من أوائل من استشرفوا خطر الإخوان الداهم وتيار الإسلام السياسي في كتابه "النذير" حين قال في مقدمة الكتاب: "يمكن القول -دون مبالغة- بأن التيار السياسي الديني قد أحرز في السنوات الخمس الأخيرة 1982-1987، نجاحا يتجاوز كل الاحتمالات أو التوقعات بحيث يمكن القول بأن هذا التيار قد نجح في تكوين ما يمكن تسميته الدولة الموازية، والمتضمنة باستمرار، والمستخدمة دائما لنفس أجهزة ومؤسسات الدولة الحاكمة"، أي أن فرج فودة قد طرق الموضوع مبكرا جدا وألحّ على طرحه، وخصّ بالذكر جماعة الإخوان المسلمين، التي كانت الرافد الأساسي منذ ثلاثينيات القرن الماضي حتى أوائل السبعينيات، وبعد ذلك أضيفت تيارات وليدة تمارس أشكالا متعددة من العنف.” وانتقد فرج فودة في وقت مبكّر الطريقة الرخوة التي عالجت بها الدولةُ المصرية مواجهةَ التيارات الدينية حتى استفحلت الآن وخرّبت وما تزال تخرّب خاصرةَ مصر.
فرج فودة، يا أبي وأستاذي ومُعلّمي الذي لم أره لكنه علّمني أن أفكّر وأن أنتقد ما أراه ناتئًا عن مساحة الجمال والتحضر، دعهم ينسونك ما شاءوا وما شاء لهم النسيانُ، فإنهم يدفعون وسيدفعون الثمنَ الفادح لنسيانك، وأنت الغنّيُّ عنهم، وعن العالمين.
* فاطمة ناعوت - عن موقع 24