سقطت صنعاء بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، فسقطت عن رموزها أوراق التوت، ووجد الحالمون بدولتها الاتحادية وأقاليمها أنفسهم عراةً في ليل عارٍ، لكن صنعاء لم تسقط إلا كما ينبغي لجلال فسادها أن يكون السقوط مذلاً، مخجلاً، مدوياً وعلى رؤوس الأشهاد، ليتبخر جيشها وقواتها المتعددة التسميات والوظائف، أمام فتية جماعة الحوثي وأطفاله، في فضاء الاستلام والتسليم، ليلوذ الدهاقنة العسكريون والسياسيون والدينيون، بالفرار أو الصمت الذليل.
بسقوط صنعاء سقطت مشاريعها في الجنوب المحتل، وترنحت أدواتها من أولئك الذين ضاقت مساحة خيالهم الوطني الحر، فكانوا يرون في صنعاء نهاية العالم، وأن استقلال الجنوب وطناً وشعباً دولةً وهويةً ليس أكثر من شعار أو هتاف يردده (مزايدون) في مسيرة، أو مليونية، وما كان يخطر في ظنهم أنه سيغدو حقيقة، ستصدمهم ذات يومٍ، وكثيرين ممن استهوتهم الأحلام الباردة في ليل صنعاء البارد، أو في غيرها من العواصم الباردة.
والآن هاهي عدن على موعدٍ مع حدث تاريخي، لم يهبط عليها فجأة أو مصادفة، ولكنه حدث صنعته التضحيات، والثبات على الموقف والهدف، برغم ما ووجهت به من قمع وتنكيل همجيين، من قبل قوى الاحتلال الممتد منذ 1994م، وبموازاته خذلان جنوبي غير منطقي.
لكن هذه اللحظة ينبغي أن يرتفع فيها منسوب اليقظة والحكمة، فليست اللحظة احتفالية، ولكنها مصيرية وفي غاية الحساسية والدقة، ولعلها حتى لدى أكثر الأحرار تفاؤلاً لم تكن لتحدث بهذه الطريقة الدراماتيكية التي أسهمت أطراف عديدة بناءً على حسابات معينة، في الحيلولة دون الاستعداد لها، لتحقيق أهدافها بجسارة،.
غير أن المهم في هذه اللحظة ليس انشغال الجنوبيين بالجنوبيين كما هو الرهان من قبل القوى التي استبدت بالجنوب واستباحته ولعبت على تناقضات قياداته وإرثها الثقيل، وإنما المهم هو قوة التحديق باتجاه الهدف ورؤيته الاستقلالية التي تجعل من أخطاء السنوات الماضية دروساً وعبراً، ذلك أن الجنوب يتسع لكل أبنائه وبناته، لكنه جنوب ينبغي أن يتشكل جديداً، ليس على خلفية أيديولوجية أو جهوية أو حزبية، تلك الخلفية التي أسقطت صنعاء في لحظات، مثلما أسقطت عدن بالوحدة في 1990م ثم بالحرب في 1994م، وقبل ذلك ما تناسل في مسار الأحداث منذ 1967م، لذا فإن ما مر بالجنوب من لحظات انكسار ينبغي أن يكون ملهماً استراتيجياً، مثلما ألهم الجنوبيين ولاسيما روّاد الحراك السلمي فاتخذوا النضال السلمي المدني استراتيجية كان المحتل يراهن على انقطاع نفسها وتحويلها إلى تكتيك يستطيع من خلاله استدراجه إلى العنف المسلح، وهو ما لم يحدث رغم مرارة الاستفزاز وفظاعة التنكيل والفجور فيه.
والآن في هذه اللحظة بالذات فإن هذه الاستراتيجية السلمية ينبغي أن تمتد تجلياتها في استراتيجية مدنية باعتبارها خياراً جامعاً يؤسس لمضمون المواطنة ومفهومها الراقي الذي أجهز عليه نظام الاحتلال في سياق نسفه لمزايا الجنوب المدنية وهويته الحضارية.
لقد أوصلت استراتيجية النضال السلمي إلى لحظة سياسية أحرجت من ظنوا أنها استراتيجية العاجز أو الحالم أو الواهم، أو من لم يدرك اللعبة فهو خارج قوانينها، ثم هاهي الاستراتيجية السلمية، وهدفها غير الملتبس، بتوصيف الواقع في الجنوب منذ 1994 بأنه احتلال بالقوة العسكرية، ولا يقبل أي مناورات تدرجه ضمن أزمة النظام السياسي اليمني أو إعادة صياغة الوحدة، هاهي الاستراتيجية السلمية تمثل الجبل الذي يستعصم به الجنوبيون - كل الجنوبيين- من طوفان انهيارات صنعاء التي بلّم ) العالم وهو يتابع مشاهدها الفانتازية. )
الجنوب يتسع لكل أبنائه، كلمة حق ومبدأ وطني سامٍ، لكن ليس على طريقة "حيا بهم حيا بهم" التي أجهضت ثورة فبراير في صنعاء، ذلك أن النضال السلمي منذ انطلاق زخمه الجارف على امتداد محافظات الجنوب المحتلة في 2007م، لم يكن إلا من أجل الاستقلال والسيادة والحرية والكرامة، وليس شيئاً آخر، ولعل من المنطقي سياسياً أن تعلن مواقف موثقة ومقرّة من قبل كل طرف مازال نهجه أو أدواته دون الاستقلال والسيادة والحرية والكرامة، ذلك أن صنعاء وإن سقطت، فإنها ستقيل عثرتها يوماً، ولا شك أن إسقاط عدن في أولوياتها، فقط قد تتغير الكيفيات، لكن النتيجة واحدة، لذلك فاللحظة فارقة واستيعاب أبعادها من الأهمية بحيث ينبغي أن يكون 14 أكتوبر 2014م ليس مهرجاناً احتفالياً، في فعاليتي عدن والمكلا، وإنما تتويج للمليونيات السابقة وتدشين في الوقت نفسه للعد التنازلي للاستقلال، بموقف جنوبي بالغ الدلالة في سلميته ومدنيته، وترتيب أوراق القيادة الجنوبية على وحدة الهدف، ليكون المشهد الجنوبي الراهن ويكون أشبه بالقفلة في الموشح الأندلسي.