في ليلة العيد مرّ أمام عينيّ مشهد طويل لشهداء في عز الشباب قضوا بنيران قوت الجيش والأمن اليمني في مناطق مختلفة من بلادنا المحتلة، كأنما قضّ مضاجع شهادتهم ما نما إلى أسماعهم من تشتت أو عدم انتظام في المشهد الراهن، في ظل التفكك الذي شمل مفاصل السلطة الغاشمة، بعد أن تمكن الحوثي من وضع صنعاء وأجهزتها العسكرية والأمنية والمدنية تحت إبطيه، وفرض أمراً واقعاً بدا كثيرون كمن فوجئوا به.
وتصادت في ليلتي أصوات شهداء تزاحموا يلهجون بصوت واحد: سبع سنوات، ثم هاهي صنعاء تترنح، وقضيتنا معلّقة في فضاء تباينات سخيفة. هل ينتظرون أن يخطب عبدالملك الجوثي، راجياً منهم أن يأتوا إلى صنعاء لاستلام مفاتيح التحرير والاستقلال؟. أم هل ينتظرون عبدربه منصور أن يغادر رئاسته في صنعاء ليعلن التحرير والاستقلال من عدن أو حضرموت؟ .
ثم صمت الشهداء جميعاً، لينبري شهيدٌ بدت على محياه أمارات الغضب، قائلاً: كنا نقول إن التباينات طبيعية، وأنها تكتيكية، لكن بعد تهاوي عتاولة الاحتلال في صنعاء، فإن أيّ تكتيك يساوم ببلدنا في بازار مخرجات الحوار، يعني بيعاً للقضية. إننا لنخجل ههنا من شهداء الحوثي، يقولون لنا، لقد دخلوا صنعاء، وشردوا رموزاً إجرامية كبرى استباحت بلدنا في صيف 1994م، ويتساءلون: ماذا أنتم فاعلون؟ يقول بعضهم: إن أردتم استقلالكم فأنتم أحقّ به، وإن أردتم شراكة جديدة معنا فذاك مقصدنا، لكن إخوتنا لن يحاربوا إخوتكم.
ثم أطرقَ الشهيد قليلاً، وقال: إننا حسمنا الأمر في حياتنا أمس، ونحسمه اليوم في دار الشهادة: لا أدنى من الاستقلال، فبلّغ من يظنون الوطن رهينة بأيديهم أن دماءنا تحترق الآن، ولن تبرد إلا عندما نراكم متحدين على كلمة واحدة: الاستقلال، ولا شيء سوى الاستقلال، وحذارِ من اللهث وراء الوعود والتوقيعات، فكل الوعود والوثائق الموقعة، مناورات للخروج من الزنقة، كما عوّدونا دائماً.
أخذ الشهيد نفَساً عميقاً، بعد زفرة حارة، فاحتضنته بعمق، ثم قلت له: يعتصرني ألمٌ أشدّ من ألمك، لكن ما يؤرقك سيتلاشى قريباً، فقال لي: قل لهم أن يعلنوا في 14 أكتوبر، ميثاقاً وطنياً استقلالياً من صفحتين، فخير الكلام ما قل ودل، وما اقترن بالجد والعمل، ومن يشذ عنه، فذاك شأنه وحده. فقلت له: حسناً. فقال: وكبادرة منّي أرجو أن تبلغ عني النقاط العشر الآتية ليكيفوها وفق ما يرون في مضمون الميثاق:
1- أن يتم النَّص على أن الاستقلال غير المنقوص هدف وطني جامع، وعلى خبراء الصياغة أن يُحكموا ضبطه لغوياً وقانونياً، دفعاً لأي التباس يوقع في اجتهادات قد تؤدي إلى أي خلاف محتمل.
2- أن يتم التأكيد على أن الميثاق الوطني الاستقلالي ترجمة عملية للهدف الذي ضحى من أجله الشهداء، وهو الاستقلال، وليس إعادة صياغة وحدة لا وجود لها، إذ لم يستشهد أحد منهم من أجل الفيدرالية أو الأقاليم أو الدولة الاتحادية اليمنية أو مخرجات الحوار اليمني.
3- أن يُوجَّه نداء إلى كل أبناء وطننا المحتل مدنيين وعسكريين في الداخل والخارج بأن الوطن يدعوكم للانتصار لاستقلاله، من دون إقصاء أو تهميش أو تشكيك، إلا من أبى فإنه غير مكره على ذلك، مع ملاحظة أن خيانة الوطن ليست وجهة نظر.
4- أن يُوجَّه نداء صريح إلى المجتمع الإقليمي والدولي مفاده أن أي مسؤول في مؤسسات السلطة في صنعاء وهو من أبناء مناطقنا المحتلة لا يمثل إلا نفسه، بدءاً ممن يشغل منصب رئيس الجمهورية في صنعاء وانتهاء بأدنى مسؤول، وأن مكانهم الصحيح هو بين مواطنيهم الواقع عليهم أثر التدمير الاحتلالي الممنهج، إذ يكفي تزييفاً للإرادة.
5- في إطار استراتيجية المبادرة بالفعل وليس ردة الفعل يُوجَّه نداء إلى جماعة الحوثي والقوى الفاعلة في صنعاء يدعوهم إلى تهيئة ممثلهم التفاوضي، على أساس مبدأ الندية، لدَرء أيّ مصير مجهول يهدد سلامة واستقرار الطرفين.
6- أن يتم التأكيد على أن الدولة المستقلة بإذن الله لا صلة لها بدولة الاستقلال الأول أو الوحدة والاحتلال، لكنها ليست دولة من أجل زعزعة أمن واستقرار المنطقة، أو إذكاء الكراهية للأشقاء اليمنيين، على أن تنظم العلاقة بهم دولةً وشعباً على أسس التعاون والتعايش السلمي والتكامل وفق مقتضيات العلاقة إيجابياً.
7- أن تُدعَى القوى الفاعلة للتوقيع العلني على الميثاق الوطني الاستقلالي، ببيانات مكتوبة وموثقة ومقرّة في هيئاتها، على أن تعلن التزامها باعتبار أي قيادي بلغ أحد الأجلين أو كليهما، شخصية استشارية يستفاد منها في الأمور، أو اللجان التفاوضية والإدارية، والتأكيد على إتاحة المجال للشباب في قيادة وإدارة مرحلة النضال التحرري السلمي، ثم مرحلة بناء الدولة.
8- أن يتضمن الميثاق نصاً صريحاً على أن حضرموت ثقل اقتصادي وجغرافي وسكاني وتاريخي يمثل عمقاً استرايجياً لدولة الاستقلال الثاني مثلما مثل رافداً لدولة الاستقلال الأول، ولذلك فالنص على دورها المحوري في إنجاز الاستقلال وبناء الدولة الجديدة الاتحادية الفيدرالية المدنية المستقلة عن دولة الاحتلال اليمني، سيعزز عوامل الثقة وسيسقط إحدى الأوراق التي يتم اللعب بها بين حين وآخر، للمساهمة في إطالة أمد الهيمنة على التراب الوطني المحتل من باب المندب غرباً إلى المهرة شرقاً، ويقع على من يقرؤون المشهد بعيداً عن أيديولوجية الهيمنة ما قبل 1990م أن يدركوا إشارة الحوثي الأخيرة إلى ما أسماه بالمؤامرة التي تستهدف حضرموت تحديداً.
9- تشكيل لجنة من ذوي الكفاءة والخبرة في الداخل والخارج للتواصل مع الجهات الإقليمية والدولية، لتسليمها ميثاق العمل الوطني الاستقلالي كوثيقة إجماع تخوّل بموجبها قيادة موحدة لبلورة مضمونه عملياً.
10- تحديد سقف زمني لايتيح مجالاً للتسويف أو المناورة، لمراجعة أي مسؤول مازال مرتبطاً بسلطة الاحتلال اليمني، موقفه والالتحاق بركب الحرية والاستقلال والسيادة، باعتباره شريكاً في مسؤولية تحرير الوطن وبنائه تأسيساً على مواطنته الكاملة غير القابلة للانتقاص، على أن توضع خارطة طريق انتقالية واضحة المعالم باتجاه الاستقلال.