عند النظر الى أي إشكالية في المجتمع لا بد لنا من البحث عن الأسباب التاريخية والسياسية والثقافية والاجتماعية التي أنتجت هذه المشكلة أو الظاهرة لنتمكن من إيجاد الحلول المناسبة لها دون ان نصطدم بالمجتمع الذي نشأت فيه.
الجماعات المسلحة كظاهرة انتشرت في اليمن خلال العقدين الأخيرين على وجه التحديد وبرزت الى المشهد العام –في بعض المحافظات- خلال العقد الأخير, وتوسعت الظاهرة خلال السنوات الثلاث الماضية الى الدرجة التي أصبحت هذه الجماعات –في الكثير من المحافظات- هي الأصل والدولة هي الاستثناء.
دائماً ما تلجأ الأنظمة عند التعامل مع هذه الجماعات الى استدعاء العوامل الخارجية دون استحضار أي عوامل داخلية, على اعتبار تلك الجماعات صنيعة لدول وجهات خارجية, ذلك التفسير السياسي المُلتبس ناتج اما عن عجز في تفسير الظاهرة أو عن رغبة في قمعها وسحقها عبر الصاق شتى التهم بها كمبرر لتعامل أمني وسياسي معها على اعتبارها مهدد لنظام الحكم ولمصالح النافذين فيه.
بدراسة تاريخ هكذا جماعات نجد أن وجودها يرتبط دائماً بضعف أو فشل أو هرم أنظمة الحكم, وعدم قدرتها على الاستمرار في التعبير عن الحد الأدنى من مصالح الغالبية العظمى من مواطنيها, المصالح التي يمكن أن تُبقي المواطنين على ارتباط بهكذا أنظمة ويشعرون أنهم معنيين بالدفاع عنها تجاه أي أخطار قد تهددها.
عندما يعجز النظام عن القيام بواجباته في حماية أمن واستقرار المجتمع, وتوفير حياة كريمة للمواطنين, وتكافؤ في فرص العمل, ويعجز عن إيجاد الية لإدارة الصراعات السياسية وبالأخص منها مسألة الحكم فإن هكذا نظام يصبح منتجاً لحركات احتجاجية معارضة له سرعان ما تتحول عند قمعها الى جماعات مسلحة.
عندما يسعى النظام لتغيير الخارطة المذهبية ويخوض صراعاً ضد هوية أو هويات فرعية -هي في المحصلة جزء من الهوية الوطنية- في محاولة منه لإنتاج هوية مذهبية جديدة لتلك المناطق على أمل أن تمده بالشرعية الدينية لاستمراره في الحكم فان النظام يفتح الباب لنشوء جماعات تسعى لمقاومة تلك المحاولات وتحيي ثقافتها وهويتها المذهبية, وتنتهج ابتداءً الطرق السلمية لكن سرعان ما تتحول الى مجموعات مسلحة عندما تواجهها السلطة بالعنف المفرط والقتل والتشريد وسجون المخابرات.
عندما تعجز الدولة كمؤسسات عن القيام بواجباتها الأساسية تجاه المجتمع وعلى رأسها حماية حقه في الحياة آمناً على نفسه ومصالحه, عندما تنتشر الاغتيالات والاختطافات والتقطعات والذبح على الطرقات –كما حصل في حضرموت مؤخراً-وكافة مظاهر الانفلات الأمني والفشل الاقتصادي فان العقل الجمعي للمجتمع سرعان ما يستدعي أدوات ما قبل الدولة لحمايته وحماية مصالحه, ومن ضمن تلك الأدوات المجموعات المسلحة التي يعهد اليها المجتمع حماية أمنه ورعاية مصالحه.
بل ان سلطات الدول نفسها تلجأ أحياناً الى خلق مثل تلك المجموعات عند انفلات زمام الأمور, كما حصل في العراق تحت مسمى الصحوات, او في محافظة ابين في اليمن تحت مسمى "اللجان الشعبية", وهناك مساعي حالياً لتكرار التجربة في محافظة حضرموت.
لكن السؤال الملح: هل يجب أن نضع كل تلك المجموعات في سلة واحدة؟ أم أنه يجب علينا التمييز بين الصالح والطالح منها؟, فهناك فرق بين مجموعات تعلن اعترافها بالجمهورية وبالدولة وبالعملية الديمقراطية وشاركت في الحوار بفعالية ومسؤولية ووافقت من الناحية النظرية –على الأقل- على بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة, دولة المواطنة المتساوية, وبين مجموعات لا تعترف –نظرياً وعملياً- بالدولة ولا بالجمهورية ولا بالديمقراطية ولا بحق الحياة من الأساس لمن يختلفون معها.
لماذا لا نشرع في بناء الدولة التي اقرها الجميع في مؤتمر الحوار؟, لماذا لا نضع هذه المجموعات في اختبار؟, لنعرف مدى انسجامها عملياً مع النظريات التي قدمتها ووافقت عليها في مؤتمر الحور, هكذا اختبار سيكشف لنا حقيقة تلك الجماعات وحقيقة مشاريعها, واذا فشلت في الاختبار عندها يمكن أن نحدد منها مواقف واضحة, لا أتحدث عن جماعة بعينها, ففي اليمن حتى الأحزاب السياسية لديها جماعات مسلحة, لذا نصت قرارات فريق قضية صعدة في مؤتمر الحوار وبشكل واضح على نزع الأسلحة من الجميع بما فيهم الأحزاب لسياسية.
الخطر الحقيقي على المجتمع وعلى الدولة هي العصابات الحاكمة التي لا يهما الوطن لا أرضاً ولا انساناً, وكل همها كم الثروة التي تجمعها ومقدار حصتها في السلطة, حتى لو وصلت المجموعات المسلحة الى صنعاء العاصمة, تلك العصابات هي التي تُعيق بناء الدولة, وبالتالي تُعطي الذريعة لتلك المجموعات في الاستمرار في الزحف, خصوصاً عندما توفر بعض تلك المجموعات نموذجاً عملياً لوجود دولة في المناطق التي تسيطر عليه أفضل من النموذج الذي تقدمه عصابة الحكم حتى داخل صنعاء, عندما تُوجِد احدى المجموعات نظام وأمن واستقرار وخدمات عامة في المناطق الخاضعة لها فإنها تقدم نموذج حقيقي للدولة وان لم يتم الاعتراف به, لأنها تقوم بأهم واجبات الدولة على الأطلاق وعلى أكمل وجه, وهذا ما يجعل الكثير يستدعونها للسيطرة على مناطقهم ويقدمون لها المغريات الكثيرة.
الخطر الحقيقي على الدولة ليس المجموعة المسلحة التي تقدم نموذجاً للدولة القوية – وان كان غير معترف بها - القادرة على حماية حياة المواطن ومصالحه, الخطر الحقيقي على الدولة يأتي من العصابة الحاكمة التي لا علاقة لها بالدولة من الأساس – وان كانت تحظى باعتراف محلي واقليمي ودولي - فهي التي تقوض أسس الدولة وتنخر مؤسساتها من الداخل, والمثل اليمني الشعبي يقول: "الحبة توقز –تتسوس- من داخلها".
"نقلاً عن صحيفة الأولى" 18 / 9 / 2014 م