بكينا على تاباكوف في منزل الدكتور علي علوي

2014-09-16 18:39

 

تجسدت عندي مقولة (الشيء بالشيء يذكر)، وأنا أقرأ موضوعا جميلا ورائعا عنوانه (عدن مدينة لا تموت)، للكاتب المعتبر فاروق قاسم المفلحي (أكثر الله من أمثاله)، والذي نشرته الزميلة (14 أكتوبر) في عددها الصادر يوم الإثنين الفاتح من سبتمبر 2014م، وتمزقت نياط قلب فاروق ونزفت دما على عدن، كبر فاروق في عيني وهو يعرف هاجسه وقلقه البالغين، وكبر فاروق في عيني وهو يلتقي إيليا أبو مافي في قصيدته (وطن النجوم)، وأورد منها:

 

وطن النجوم أنا هنا .. حدق أتذكر من أنا

 

ألمحت في الماضي البعيد .. فتى غريرا أرعنا

 

بكى فاروق وبمرارة على عدن فأعادني القهقرى إلى مطلع يونيو 2014م، عندما التقينا في عصرية ذلك اليوم في منزل الدكتور علي علوي، الاختصاصي والاستشاري في طب وجراحة العيون، أطال الله عمره ومتعه بالصحة، وجمعنا مجلس المقيل والدكتور المضيف يرحب بهذا ويتفقد ذاك وهو يتنقل بين الصالة والمطبخ ليوفر ما نقص على هذا وما نقص على ذاك، رغم وجود عامل مناط به عمل ذلك، لكنها الروح الحاتمية هي التي دفعته لهذا التنقل بين ذينك الموقعين وبين عبارات التأهيل والتسهيل.

 

وجدنا أنفسنا، معشر الضيوف، من مواقع مختلفة كلها تدور في دائرة التكنوقراط، ونحن نقف أمام الحال الذي وصلت إليه عدن من العشوائية (الفوضى)، وما هي خلفيات ودوافع العشوائية والفوضى؟ وشارك في مداولة القضية متخصصون أمثال م. نبيل عبدالقوي ومهندس آخر لا يحضرني اسمه، وشخصيات أخرى معنية بالتنمية الإدارية وشخصيات مثقفة، وأن الكم محدود إلا أن النوعية ممتازة.

 

شدني تعاطي المشاركين في المجلس من حيث الموضوعية والرصانة والهدوء في الطرح، وخلا المجلس من الصراخ والأعصاب، وتحدث الأخ عبدالمجيد الصلاحي، الشخصية العامة والاجتماعية المعروفة، وخاصة في محافظة أبين، وتحدث بألم عن بعض المشاركين في شبكة التواصل الاجتماعي الذين حولوها إلى شبكة شتائم وتصفية حسابات، وللأسف أن إخواناً جنوبيين يشاركون في إشاعة ثقافة الكراهية، وكأنهم يحيون الاستنزاف الذي مارسناه ضد بعض، والكل استهجن هذه الثقافة الخارجة عن اللباقة وعن قيمنا التي تربينا عليها.

 

إلا أن الهاجس المشترك لنا جميعا هو حالة الفوضى والعشوائية التي تعيشها مناطق الجنوب، وخاصة عدن أنموذج النظام والمجتمع المدني، وأخذ الأخ المهندس نبيل عبدالقوي نصيب الأسد في الحديث، وكانت نقطة الارتكاز الحضرية والحضارية في التناول هي (تخطيط المدينة) التي عشقناها كثيرا خلال حقبة الإدارة البريطانية والتي عرفت بـ (TOWN PLANNING) وكان النظام فوق كل شيء وفوق كل اعتبار وأذكر أن السفارة التشيكية بعدن منحت مبنى من المباني التي عرفت بـ(مساكن تودي) بخورمكسر، وهذا النوع من المساكن متميز بسور قصير وحديقة متواضعة وواجهة يغطيها (جزء من الدور الأرضي ومن الدور الأول بردين بفتحات مطلية بالأحمر)، وسكن تلك المباني شخصيات معروفة مثل: عبدالباري قاسم والدكتور محمد الحريبي وحيدر العطاس وعبدالله باذيب وعلي باذيب ومحمد سالم مدرم.

 

بحكم محدودية وتدني وعي العامة عندنا وتمثل ذلك في أن العلم الذي يرتفع فوق أي مبنى لا يرد في علم هؤلاء البشر بأن العلم معناه سيادة دولة أجنبية لا يمكن انتهاكها، وعلى سبيل المثال يرى هذا المواطن أن هدفه هو بيت فلان ولماذا يتعب نفسه بالدوران على هذه المساكن ليصل إلى هدفه؟ ولماذا لا يعبر حديقة السفارة التشيكية ليصل إلى هدفه مختصراً بذلك الزمن والجهد.

 

وقعت السفارة التشيكية مذكرة إلى الخارجية بمدينة الشعب طلبت فيها رفع سور حديقة مبناها لمنع الخارجين عن القانون من انتهاك سيادة الأراضي التشيكية، وبدورها رفعت الخارجية طلب السفارة إلى وزارة الإنشاءات (وكان الوزير حينها هو المهندس حيدر أبوبكر العطاس)، وجاء رد الإنشاءات بعدم إمكانية ذلك لأنه يمس (تخطيط المدينة)، ولحل ذلك الإشكال وفرت الإسكان مبنى آخر في خور مكسر بسور عال في شارع قاسم هلال (أمام بيت الدكتور محمد أحمد لكو).

 

تحدث المهندس نبيل عن مخطط عدن العام (MASTER PLAN) وأنيط المخطط بالبروفيسور بايكوف، رئيس جامعه كييف، ويعتبر هذا البروفيسور أحد أبرز ستة مخططي مدن على مستوى العالم، ووضع خطته لعدن حتى عام 2020م، وكان المخطط العام قد تحددت تفاصيله بحسب المعايير الدولية، وأخذ بعين الاعتبار كل الحاجات المستقبلية، ولا يتسع المجال لعرض تفاصيل ذلك المخطط الرائع.

 

من ضمن كبار الخبراء الذين عملوا في هذه المجال لخدمة هذه المدينة الطيبة هو الخبير تاباكوف الذي كرس علمه ومشاعره وضميره، وفي أواخر عام 1989م بدأ مسؤولون في الدولة يحركون أصابعهم عبر مهندسي الإنشاءات للعبث بمخطط عدن للاستفادة من الأراضي، وانفجرت أعصاب تاباكوف، وقال لمهندس الإنشاءات: ما هذا الذي تعملونه؟! ستندمون يوما على أفعالكم هذه عندما تنتقلون من دولة لها هيبتها من دولة المواطن يخاف فيها التصرف المخالف للقانون إلى دولة لا هيبة ولا نظام ولا قانون لها.

 

قال تاباكوف لزملائه في الإنشاءات: ستندمون على كل خطوة تخطونها وأنتم تنسفون مخطط مدينتكم. كان تاباكوف يخاطب مهندسي الإنشاءات القادمين من موسكو وصوفيا وبرلين وبودابست وبراغ وغيرها من المدن الجميلة، وسكنت تلك المدن في ذاكرتهم لكنها المصالح وضعف الانتماء وتدني الحس الوطني عندهم، وعن مسؤوليهم من خارج الوزارة هي التي بدأت توجه الغربة الأولى لعدن التي وصل إجمالي الأراضي المنهوبة فيها إلى 60 % مع نهاية عام 2013م، أما إجمالي العبث الذي طال أراضي عدن خلال هذا العام فيفوق كل تصور، والمؤسف أن العبث خلال الأعوام 2012 و 2013 و2014 مارسه جنوبيون.

 

بكينا على تاباكوف في مزل الدكتور علي علوي.. وماذا بعد؟!.

 

* الأيام