يُدرك خصوم (( أنصار الله )) ـ ربما أكثر بكثير من غالبية حلفائه ـ بأن قوة هذا المكون الإجتماعي الأيديولوجي الثوري الفتي لا تكمن في عتاده العسكري و حرفيته القتالية ولا في صلاته (( المضخَّمة على نحو فانتازي )) بالنظام الإيراني ، مع أهمية كل ذلك في حساب قوته وحضوره الغامرين .. و إنما في صدق التحامه بحضيض واقع البنى الاجتماعية اليمنية المسحوقة و المقصية ، و عمق تشخيص أزماتِها و تذخير خطابه الثوري بمظلومياتها ، وتطويع أطره كأغماد أمينة لهذه النصال التي تواصل السلطة المسيطرة صقلها بالمزيد من القهر و الإقصاء و التجويع الممنهج ... ـ
إن صلة (( أنصار الله )) الحيوية بهذا الحضيض الاجتماعي ـ بوصفهم و وصفنا جزءاً من نسيجه و أوجاعه ـ هي المضخة الخارقة التي تمد (( أنصار الله )) كمكوِّن ثوري ؛ بفرط القوة وجدارة المجابهة و القدرة على ريادة خضم شعبي محتقن اقتطع (( فرسان المعارضة الورقيون )) أنصبة رفاههم من لحم حلمه الغض و انسحبوا إلى تكايا السلطة و أبراج العاج ؛ شامتين بآلامه كما يليق بمرابين و أوغاد ... ـ
ليس أمام سلطة "الخصوم" ـ وهي تدرك الحقيقة الآنفة ـ سوى خيارين : أحدهما أن تستدرج (( أنصار الله )) خارج هذا الحضيض و تقطع صلته به و تستضيفه كجثة هامدة أخرى في تشكيلة حكومية قوامها موتى كسابقاتها ، و هذا هو الخيار الذي تحبذه (( سلطة المحاصصة والفيد )) و تعكف عليه .. و الآخر أن تلبي المطالب المشروعة التي يشهرها الشارع بقيادة (( أنصار الله )) في وجهها ، وهذا خيار تمقته و تعجز بالقصور الذاتي عن المضي فيه أو إليه ، و إن بدا نظرياً أنها تفعل فمن قبيل التكتيك وبهدف كسر احتشاد الشارع ، و إستفراغ احتقانه و تبديد طاقته و وقته في دورة أخرى من التعويل على الوهم .. لقد برهن منعطف 2011م الإحتجاجي ـ لاسيما لأولئك الذين كانوا لا يزالون يحسنون الظن (( بالمجتمع الدولي المختزل أمريكياً )) و ينظرون إليه بوصفه (( عـرَّاباً )) لا غنى عنه لعملية الإنتقال السياسي المنشود في اليمن ـ أن كل رهان على غير الطاقات الشعبية صاحبة المصلحة الحقيقية في التغيير ، هو رهان خاسر بالضرورة ، و أن أي نبتةٍ ثورية تترعرع خارج تربة هذا الحضيض الوطني و لا تـتـشـرَّب ملح مظلومياته ، هي نبتة ميتة سلفاً ، ولا يمكن أن تطرح ثماراً في أكواخ الجوعى مهما امتد بها الوقت . ـ
هكذا فإن " المجتمع الدولي أحادي القطب " يقف اليوم إزاء ضربات زلزال شعبي ثوري مباغت ـ موقف (( مدير سِيْرك )) يشاهد عاجزاً مسرح أراجوزاته يتداعى ولم يعد في مخزون حيله و ألاعيبه ما يجعله قادراً على الإدهاش ؛" و هو الذي إعتقد لبـرهة مديدة أنه قد نجح في إيهام شارع 2011م المحتج بمشهديَّةٍ جديدةٍ في اليمن ، عبر دهن يافطة الحكم العتيقة بطلاء وردي برَّاق و إعادة تأثيث البلاط القديم بأربطة عنق مغايرة ؛ ليصحوَ فجأةً على حقيقة فشل عصاه السحرية في مواربةِ الواقعِ القبيح ذاته عن عيون "الشارع"! ـ من اليسير أن تلحظ خلطةَ الإرتباك و التخبـُّط و الحيرة و غبش الرؤية التي تسود معسكر الضفة المضادة لحضيض شعبي منتفض ، يتصدره ثائر ثلاثيني هادئ الرَّوع ؛ متزنٌ ؛ يرى بوضوح و يدرك تماماً ما يريد ، آوياً إلى (( صخرة الشعب و جبل الجماهير )) ، التي يقول عنها (( فلاديمير لينين )) : إنها تجعل من أي حزب يلتحم بآمالها ـ قوة لا متناهية ؛ حيث لا قوة للحزب في ذاته مجرداً من هذا الالتحام .. إن إفـتـقـار إحتجاجات 2011م للأداة الثورية كانت نقطة الضعف الجوهرية التي أصابتها في مقتل ، على النقـيض للإنتفاضة الراهنة التي ـ يبدو جلياً حتى اللحظة ـ أنها عثرت على أداتها الثورية في صورة (( أنصار الله )) ... ولم يكن تكتل (( المشترك المعارض )) حينها كما قبل ذلك المنعطف و بعده ـ مؤهلاً للعب دور الأداة الثورية حتى على مصاف التكتيك ، وعوضاً عن ذلك فقد كان هذا (( التكتل سيئ الصيت )) بمثابة (( حصان طروادة )) الذي تسللت من خلاله أصابع الوصاية الأمريكية إلى رحم الإنتفاضة الشعبية لتجهض جنينها الثوري قبل أن يتخلق و تستبدله بأطفال أنابيب زائفين جـيـَّـروا مسار التحـوُّل لصالح آبائهم المعمليين في (( واشنطن و الدوحة )) ، بحيث غدت الإنتفاضة فرصة سانحة أخرى لتجـذيـر الهيمنة لا خطوة نوعية جسورة على طريق الخلاص من نير الهيمنة .. مع ذلك فقد أفضى منعطف 2011م ـ رغم عثراته ـ بالمشهد اليمني إلى فرزٍ أكثر جلاءً ، (( فالكائنات المستنسخة معملياً )) و التي تسلقت العمود الفقري للمسحوقين ، ليس بمقدورها اليوم أن تصطف إلا بالاتجاه النقيض لسيل الإرادة الشعبية الجارف ، مراهنةً في نجاتها على (( تدخـُّـل سوبرمان الفصل السابع )) الذي سيجيء ـ ولا ريب ـ ممتطياً حصان النوايا الحسنة الأبيض؛ ليخلـِّـصها من خناق أنياب و أظافر (( الغُـبْـر الشعث المقعشين )) في اللحظات الأخيرة ، .. ـ وفي الأثناء فإن من المهم بالنسبة إليها أن تستمر قدر المستطاع في حقن النسيج الإجتماعي بسموم الخطاب الطائفي و المناطقي الفاضح و المقيت ، فـذلك هو سبـيـلها الوحيد لضمان (( الإصطفاف الوطني )) و تمتـيـنه ، وتهـيـئـة المناخ الملائم للـشــروع في (( الأقلمة )) على جغرافيا يتحتم أن تكون مفخخة بحزمة من عوامل الإحتراب الأهلي التي يعـوِّل عليها مركز الهيمنة العالمية في أن تمنح كل إقليم على حدة ـ أبعاده و تماساته و ملامحه المغايرة سلباً ؛ لسواه من الأقاليم .. ـ إن الإنتفاضة الراهنة بإيقاعها الثوري التصاعدي ، و صلابة رموزها ، لا تهدد سلطة (( اللصوص بالوكالة )) في واجهتها الوظيفية الإجرائية الهشة المتمثلة في "حكومة وفاق نظراء" فحسب ، و إنما في عمق وجودها بما هو وجود (( لمركز الهيمنة القطبية )) في حاجته للتعاطي مع (( شعوب التخوم )) كطارئ على جغرافيا هي في فلسفته بالأساس - محض سوق و مناجم و حقول نفط و ممرات ملاحة دولية؛ لا وجوداً كثيفاً و غائر الجذور في التاريخ و المكان .. وجودٌ من حقه الطبيعي أن يتمتع بالسيادة على أراضيه و أن يقرر مصيره وفقاً لمصالحه بمنأى عن هراوات القرصنة المشرعة فوق رأسه على هيئة (( وصاية أممية )) .. إن مطلب إلغاء الجرعة السعرية الجائرة إذ تشهره هذه الإنتفاضة الثورية الجبارة ، يبدو ـ في ضآلته و مباشرته ـ أشبه بحصاة في قبضة (( مارد )) .. يلوِّح بها فيثير زوابع من الذعر و الهلع العابرة للحدود ، و يقذف بها نوافذ قصور النافذين في صنعاء ، فيتهشم زجاج نوافـذ مجلس الأمن الدولي في (( نيويورك )) ، مدللاً على أن الصراع في جوهـره ـ ليس صراعاً حول (( رفع الدعم أو إعادته )) ، بل صراع حول (( رفع الرأس أو طأطأته إلى الأبد )) .. صراع شعب في سبيل أن يكون أو لا يكون .. شعب أُسقط من كل الحسابات بشقيها : الحاكم و المعارض على طاولة (( وفاق نظراء و اصطفاف أشباه )) يزاولون تقليم أظافره و ترويضه بكرابيج المديونيات و العجز و القرارات الدولية ـ ليغدو أليفاً و داجناً يتمسح عند أقدام قاهريه و يموءُ متسولاً فتاتَ هباتهم و مكرماتهم .. إن العجز الذي تعاني منه هذه السلطة هو عجز في إرادة الكينونة بمنأى عن الإرتهان لهيمنة القطبية الإمبريالية ، أضعاف ما هو عجز في موازنتها الحكومية ، ولا سبيل لمعالجته سوى الانحياز إلى الشعب و التعاطي معه كطاقات و سواعد ، لا كأفواه و مستهلكين . بيد أن هذه السلطة بوصفها (( سلطة وكلاء و قطط سمان )) تنقض ذاتها كلياً إذ تجرب هذا الإنحياز ، وتجد نفسها مقسورة ـ بالقصور الذاتي ـ على التمادي في نقض كينونة الشعب بالمزيد من الإرتهان لوصفات صناديق الإقراض ، و مواربة عجزها البنيوي بتضخيم عجز الموازنة .. هكذا فإنها ـ و في خضم تهافتها لاستجلاب تدخـُّـل عسكري خارجي ـ لا تتورع في تأويل (( انتفاضة الجياع )) بـ(( تدخـُّـل إيراني مجوسي )) يستهدف (( الإنقلاب على نظامنا الجمهوري المجيد ، و لحمة صفنا الوطني )) .. ـ هنيئاً لإيران ـ إذاً ـ كل هذه القوة التي تبدو معها أمريكا و الإتحاد الأوربي و مجلس الأمن ، رتلاً من النمور الكارتونية الخائرة ، لا تقوى على مد يد العون لسلطة (( صنعاء )) التي تطل على (( شعبها )) من شرفة (( ماري أنطوانيت )) فلا ترى إلا حفنة من (( المرتزقة و الإنقلابيين )) يحركهم (( التُّومان )) لا الجــوع ...
*نقلا عن صحيفة اليمن اليوم