كان بالإمكان جعل مما حدث في سقيفة بني ساعدة مرجعية سياسية تقتفي الأمة أثرها ويتم تطويرها حسب مقتضيات العصر، فتلك السقيفة وضعت اللبنة الأولى حول نزع الدين عن السياسة، إذ لم يتم التطرق نهائيا بين المجتمعين عمن هو المؤهل لتطبيق الشرعية الإسلامية او من هو الذي سيؤمن الإسلام ويجعله حاضرا ومثبتا بين المسلمين رغم حداثة الدين وحداثة المؤمنين به، بل كان محور التنازع قائما على من سترتضيه العرب كقيادة مؤهلة وشخصية ذو عزيمة ومكانة.
حدث الاتفاق فيما بينهم على تولية أبوبكر الصديق، وهذا الاتفاق وبعض النظر عن طريقة حدوثه، او عن اقصائه للأنصار بشكل نهائي من التاريخ الإسلامي أو عن غياب ممن يمثلون بيت النبوة كونهم أحد اهم المؤثرين في الأحداث، إلا أن بذرة الفكرة وحدوثها بالنسبة للوعي العربي آنذاك تعتبر متطورة ومتقدمة جدا، حيث أنه لم تسفك الدماء بل جرى الأمر بطريقة حوارية مثيرة للدهشة .
لم يتم اعتماد فكرة السقيفة لتداول السلطة في عهد الخلفاء وظل الأمر يتسع ويضيق بين الاختيار الخالي من اية شورى كما فعل ابوبكر بتعيين عمر أبن الخطاب أو بتعيين لجنة مؤقتة لاختيار خليفة كما فعل عمر مع من يليه، وهذا التذبذب كان ناتجا على عدم العناية بهذا الأمر رغم أهميته القصوى والذي اثبت أن تجاهله أدى الي كوارث تاريخية عميقة تركت ندوبها العميقة والمؤثرة على كل الأجيال التالية.
لكن ورغم عدم تأطير وتأسيس فكرة السقيفة فهذا لم ينهي موضوعها أبدا إلا بعد ان رفعت المصاحف فوق الرماح في المعركة التي دارت بين علي أبن ابي طالب ومعاوية ابن ابي سفيان، عند تلك المرحلة أنتقل العرب من حالة إلى أخرى ليبدأ بعدها عهد الاستبداد القائم على المرجعية الدينية وتم التمازج بينهم _ بين الدين والسياسة _ حتى صار من الثابت بأن الدين هو السياسة والسياسة هي الدين وحسم الأمر وأنهى البحث في هذا الأمر لدرجة أننا لا نجد وفي مختلف العصور الماضية ما قبل عصر النهضة كتابا واحدا يتحدث في هذه الأمور أو حتى يتطرق اليها ولم يتجرأ أحد لتأليف مخطوطات تتحدث عن طرق اختيار الخليفة ومن يختاره وكيف يتم اختياره وكم مدة حكمه وكيف يعزل ، كلها أمور تركت للسيف والعنف وأكتفوا بحصرها في قريش والبعض حصرها في بيت النبوة لتضيق الحلقة وتصبح مستعصية وغير قابلة للنقاش.
عندها أرتقى الحاكم من باحث في أمور الرعية إلى مبتعث آلهي أولى مهامه هي أخضاع الرعية له وتأسيس حكم ملكي يلغي فكرة الشورى ويحولها إلى بيعة جبرية تفرض بقوة السيف وقوة الدين ومن يعارض هو بالضرورة يعارض أمر إلآهي ديني وشرعي وبالتالي يتم أولا إخراجه من الملة ويجوز قتاله وإهدار دمه، ومنذ تلك اللحظة وحتى الان لم يتوقف هدر الدماء .
ما قبل رفع المصاحف فوق الرماح يختلف عما بعده، كل شيء أختلف، فظهرت جماعات تكفيرية كالخوارج وانشقاقات دينية وسياسية واستغل الدين بشكل متعسف وحمل فوق طاقته لمآرب سياسية وخرجت فكرة الجبرية وأسسها علماء على المنابر تقوم على أن حكم بني أمية هو قدر جبري على المسلمين وأن الاعتراض عليه ما هو إلا اعتراض على مشيئة سماوية و إلآهية، بل ذهبت الي أبعد من ذلك لاستخدام المنابر والمساجد في تسفيه وشتم الخصوم السياسيين باعتبارهم خصوم للدين، واخذ على كل من لا يأخذ صفهم ويدعو بدعواهم.
هل نحن بحاجة إلى إعادة قراءة التاريخ من زاوية أخرى، لا اعتقد ذلك، فقد تمت قرأته من كل زاوية وجهة، نحن بأمس الحاجة إلى نقد عقلاني مادي بحت بمعزل عن المرويات الغيبية التي جعلت من العقل وعاء ضحل كسول اتكالي، وهذا لن يتم مادام هنالك نقاط ونصوص مقدسة، لن يتم مادام هنالك شخوص لهم مرتبة فوق البشر الطبيعية لا يمكن الاقتراب منها، وهذا لن يتم مادام هنالك مراحل تاريخية نزعت عنها الصفة البشرية لتصبح حالة اسطورية مسلم بها وبحصافة مواقفها وكلامها وسيرتها.
تاريخنا ليس بالمجمل سيء، لكن هنالك لحظات مظلمة هي من طغت على سيرته، وباتت هي المرجعية بعد أن تم القضاء على أي فكر تنويري أو فلسفي جاد، ورغم ان المحاولات التنويرية مستمرة حتى اللحظة إلا ان القوى التقليدية مازالت مهيمنة على مواقع النفوذ والمال وهي من تقوم بتحريك بوصلة التخلف وتوزيعه بمختلف الجهات.
مازال الدين طاغي على حياة الإنسان في هذه المنطقة، طاغي إلى حد أن يُسئل رجال الدين عن حكم سكب دلو ماء على الرأس وهل يقبل الله بهكذا عمل أم انه سيغضب منه، طاغي إلى درجة أن يخرج شباب لم يتجاوزوا الخامسة عشر من أعمارهم للانضمام إلى جماعات دينية مسلحة مهمتها الوحيدة في هذه الحياة ذبح الأعناق وخطف النساء وأغتصابهن وقتل الرجل في الشوارع بحجة أنهم غير مسلمين وأن هذه الأعمال هي من مقتضيات الدين الذي يعتنقه ويؤمن به، بل يرى بأن هذه الأعمال هي التي ستأخذه الي الجنة بعد موته ليخلد منعما بها وإلى الأبد كمكافأة له من ربه !!
ولأن الدين طاغي ومهيمن، ولأنه أداة غسل دماغ ناجعة ومؤكدة، فهو سيظل السلاح التي تستخدمه الجماعات الدينية السياسية في كل بلد إسلامي لتسوق به الجماعات وتحشدهم لتحقيق أهداف سياسية ، وستظل الجموع تستجيب لأنها تعتقد أنها تلبي نداء ديني مقدس، والحوثي في اليمن أنموذج فاقع اللون، فهو يسوق جماهير فقيرة وبائسة وأمية لتصرخ بأنها ستدمر أمريكا، تشاهد جموع قد اخذ التخلف بها كل مأخذ تصرخ بالشعار الممتلئ عنصرية ولا إنسانية دون أن تعي فعليا ما هو المقصود بهذا الشعار وإلى اين سيذهب بهم ولماذا الشعار يدعوا إلى قتل الأمريكان واليهود ، بينما الدم المراق هو دم يمني مسلم، إن من يقف خلف الحوثي ويدعمه ماديا وإعلاميا لا يريد إلا أن يشعل المنطقة نارا لا تنطفي بعد أن يعيد المعارك الفارغة والمجوفة التاريخية ويجعلها حطب لمحرقة بين الشعب الواحد، هي جهة شيطانية جعلت من الدين سلاح رسمي لدولتها وجعلت من العمامة شعارا للكراهية والحقد الذي طفح من عندهم لتقوم بتوزيعه على الشعوب المجاورة لها .
آخر ما نحتاجه في اليمن هو الدين السيء المسيس ، أنه دين فج وعنيف وجاهل ومتعالي، دين لا يجيد إلا لغة العنف والقتل والحشد والهيمنة، دين لا يهتم بإطعام فقير أو علاج مريض أو توفير سكن لمشرد، بل كل ما يريده هو تطبيق شرع الله كيفما كان وبأية طريقة كانت، ليستووا حينها على الكراسي ويؤسسوا دولة دينية تجهل أبجديات السياسة والاقتصاد والحلول الاجتماعية العصرية ويتفرغوا لطقوسيات شعائرية وانغماس في غيبيات معادية للحياة والحب والفنون والمرأة، وكأن كل التجارب الفاشلة للدولة الدينية لم تكفي حتى نظل نعيد ونكرر هذه التجربة بكل إصرار وكأننا ننتظر أن يحدث شيء مختلف لما سبق وأن حدث، وهذا هو الغباء بعينه.
* بكر أحمد - كاتب يمني