لم يكن تناول الأفلام المصرية لأعمال السحر والدجل.. أو عالم البيزنس الساكن خلفهما.. خيالاً جامحاً.. بل واقع ملموس على أرض مصر.. كما جسده الفنان «أحمد زكى» فى فيلم «البيضة والحجر».. ورغم أنه لم يكن دجالاً.. إلا أنه استطاع أن يقنع كبير الدجالين المزيف بالمنطق.. طمعاً فى غرفة تأويه.. وببضع كلمات- لا أكثر - ليس لها علاقة بالواقع.. وصل إلى مرتبة كبير الدجالين.. وأصبحت زيارته بالمواعيد.
ننتقل من فيلم «البيضة والحجر» إلى قرية «طموه» - من أشهر القرى المصرية - التى تمارس بيزنس «العلاج الروحانى» أو العلاج «بالقرآن الكريم» أو العلاج عن طريق «الجان».. وهكذا أصبح هذا النوع من العلاج.. ظاهرة تسيطر على شرائح متنوعة فى المجتمع المصرى.. والتى تحرص على التردد على هؤلاء الشيوخ.. الذين يرفعون شعار العلاج «بكتاب الله».
ورغم أنها قرية صغيرة.. إلا أنها تثير العجب.. لأنها تسجل أكبر نسبة من بين قرى محافظة الجيزة.. إلى حد امتهان جميع أهلها بيزنس العلاج بالقرآن.. وممارسته صغارًا وكبارًا.. أغنياء وفقراء.. رغم أنها قرية الشيخ «محمود الخشت» - قارئ الإذاعة والتليفزيون- ويسكنها العديد من العلماء والأطباء والمستشارين والموظفين وغيرهم فى مختلف المجالات.. كما يوجد بها «المركز العالمى للدعوة الإسلامية» التابع لجماعة التبليغ.. وهى قرية تميل إلى الشكل الريفى مع قليل من المدنية.. وتعتمد على الزراعة.. والمشاريع الصغيرة.. واللافت للنظر هو اقتناع جميع سكانها تماماً.. على اختلاف فئاتهم وأعمارهم.. بمهنة هؤلاء الشيوخ ومكانتهم العليا.. بل ويتباهون بتعدد المعالجين.. وبالطبع لكل شيخ طريقته.
وتجولت «روزاليوسف» فى قرية «طموه».. لكشف أخطر ظاهرة انتشرت بشكل غير مسبوق.. وهى بيزنس العلاج بالقرآن الكريم.. الذى يلجأ إليه بجانب كل أهالى القرية.. العديد من المترددين على العرافين.. سواء من مصر.. خاصة المعادى وحلوان وطرة وبنى سويف وسوهاج والمنيا والشرقية.. أو بعض البلاد العربية.. لفك السحر أو عمل حجاب.. وكانت النصيحة التى يرددها الجميع: خافوا من غضب الشيوخ.. واحترسوا.. إنهم «مخاويين».. وهى الفكرة المسيطرة على أذهان أهالى القرية.. كباراً وصغاراً.
وأشار أحد شباب القرية - رفض ذكر اسمه- أن العلاج بالقرآن انتشر فى القرية منذ سنوات عديدة.. حتى صار ظاهرة تحتاج إلى دراسة.. وحلول جذرية.. كما أن العديد من السحرة والدجالين.. يتخذون من أعمالهم وسيلة للكسب.. الذى وصل عند بعضهم إلى حد الثراء.
واشتهر فى هذه المهنة أفراد متعددة.. بعضهم ورثها أباً عن جد.. حيث يتعلمها الأبناء من الأباء.. وكأنه كنز ثمين.. ومن بين هؤلاء سيدة مشهورة تدعى «عالية».. ورثت هذه المهنة عن أبيها.
ويقول «خالد» أحد الشباب الذى التقينا به مصادفة: إن بيزنس «العلاج بالقرآن» فى القرية.. بدأه رجل أسطورة هو «الشيخ حافظ».. الذى كان يعالج المريض فى جلسة واحدة بالقرآن والرقية الشرعية.. لكنه مات منذ ثلاث سنوات.. وخلفه أخوه.. لكنه ليس فى مثل قوته.. ولم يحظ بسطوته وشهرته.. ومع ذلك لا تستطيع أن تذهب إليه للعلاج إلا بميعاد سابق.
وتابع «خالد»: إن الشيخ «حمدى» أيضاً يعالج بالقرآن الكريم.. دون أجر.. لكنه يبيع للمريض أشياء أساسية.. تساعده على إتمام العلاج.. كالمسك وبعض الزيوت وأنواع العطارة والبخور.. وهكذا يحقق له العلاج بالقرآن رواجاً فى تجارته المعروضة فى بيته.
وأضاف أن الدور الذى تلعبه الحكومة فى مكافحة هؤلاء الشيوخ.. هو القبض عليهم.. إلا أنهم يعودون إلى ممارسة هذا البيزنس بعد خروجهم.
وذهبت إلى بيت إحدى العرافات «ش» الشهيرات جداً فى القرية.. التى ترفع شعار أن العلاج «من عند الله».. بيتها قديم.. ومكون من طابقين.. ذات مدخل ضيق.. ولعلها تركته على هذه الهيئة.. لإيهام الداخل بشىء من الرهبة.. وحين طرقنا الباب.. خرج أخوها ووالدتها.. وسألا: من أنتم وماذا تريدون؟.. فقلت لها : قريبة مريضة.. وتحتاج إلى علاج سريع.. لم يفلح فيه العديد من الشيوخ.
وانتهزت الأم الفرصة.. لتؤكد أن هؤلاء الشيوخ نصابون.. ويسعون إلى كسب المال.. وأن ابنتها هى الوحيدة القادرة على فك هذا السحر.. الذى تعانى منه قريبتى.. وحين سألتها عن قيمة الكشف.. قالت إنها تتقاضى «مائة جنيه» فقط.. لمجرد الكشف.. ثم تحدد بقية الأتعاب بعد تشخيص المرض.. وتحديد العلاج.. وحين أوضحنا أن قيمة الكشف مبالغ فيها.. ومن الصعب دفع هذا المبلغ.. بررت أن السبب.. هو تمكنها وقوتها فى فك السحر والأعمال.. كما أن من تعالجه.. لا يعود إليه السحر مرة أخرى.. ولا يستطيع الساحر أن يكرر العمل للمريض مرة أخرى.. لأنها تمنع حدوث ذلك.. إضافة إلى أنها لا تستعمل بخوراً ولا زيوتاً.. مما يستعمله النصابون- على حد قولها- وإن عملها قائم على الروحانيات والقرآن فقط.
وتحدثت مع صاحب محل أحذية حول العرافين فى القرية.. وذكر أسماء بعضاً منهم.. مثل «دير النصارى» الذى يقوم بأعمال الدجل والشعوذة.. وعرافاً آخر يدعى «س. ف».. وهو أحد أهم العرافين فى القرية.. الذى يسكن فى منطقة «العرب» التابعة للقرية.. والقريبة جداً من منزله.. والذى يستخدم «التوك توك» فى توصيل المترددين عليه فى دقائق.. كما أن أغلبية العرافين.. تعتمد فى المرحلة الأولى للعلاج على القرآن الكريم.. كى يطمئن الزائر.. ولا يحددون قيمة ثابتة للعلاج.. لاختلافه حسب حالة المريض.. أو تترك لتقديره الشخصى كحلاوة للشفاء.. بالإضافة إلى أن هؤلاء المشعوذين يمارسون عملهم.. دون أن يتعرض لهم أحد.. ولا حتى الحكومة.. وفى حرية وأمان تام.
وقال «عم حنفى»- رجل طيب من أهل القرية- إن هناك أكثر من عراف.. ولكنهم جميعا نصابون محترفون.. همهم الأكبر كسب الأموال من عباد الله.. إلا أنهم لا يستطيعون نفع أحد ولا ضره.. وذكر قصة طريفة فى هذا الشأن.. وهى أنه فى أوائل التسعينيات.. كان يريد بيع بيته.. وبينما هو جالس مع أحد الأصدقاء.. مر رجل من هؤلاء الدجالين.. وجلس معهم.. ولما عرف أنه يريد بيع بيته.. قال : أنا أستطيع أن أكتب لك ورقة.. تستطيع بعدها أن تبيع البيت.. ولكن فى المقابل أريد عشرة جنيهات.. ولما أخذ الجنيهات العشرة.. مر بهم سمسار عقارات.. فأوقفه الدجال.. وطلب منه أن يبحث له عن زبون يشترى منزله.. فقام فى التو وأخذ منه الجنيهات العشرة.. وقال له : لو كنت تستطيع أن تساعد نفسك.. لاستطعت مساعدتى.. ولكنك لم تستطع إيجاد زبون يشترى بيتك.. فكيف تكتب لى ورقة سحرية تجعلنى أبيع بيتى ؟!.. أكتبها لنفسك.. فأنت أولى بها.
وتابع «عم حنفى» إن هؤلاء نصابين.. يسعون فحسب إلى الثراء.. واستنزاف جيوب الغلابة.. بطمأنة الناس بالعلاج بالقرآن.. حتى لايخافون من أى ضرر.. وهو يقول دوماً لمن حوله.. لا تصدقونهم.. واطلبوا العون والشفاء فقط من عند الله.
وسألت أحد شيوخ العلاج بالقرآن.. والذى استقبلنا خارج منزله.. ثم انتظر قليلاً.. وقال : لحظات حتى تدخلوا.. وكان سبب ذلك وجود سيدة وابنتها فى الداخل.. وبعد بضع دقائق.. أمرنا بالدخول إلى غرفة صغيرة جداً.. لا يوجد بها سوى «سجادة».. تحسباً لوقوع مرضى على الأرض.. وجهاز «كاسيت».. و«سى دى» محمل بالقرآن الكريم.. و«عصاه» يشير بها بدلاً من ملامسة المريض بيده.. وهى أدواته المستخدمة فى العلاج.. والغريب هو محاولته إقناعى بأنه سيعالج الحالة بشكل تام.. فى حالة وجودها.. وفى مقابل أموال قليلة.
وتحدثت مع الحاج «صالح» - من أهالى «المحلات التجارية»- الذى حاول إقناعى بالشيخ «أحمد عبد ربه» فى بلد «المنوات».. الأكثر شهرة فى العلاج بالقرآن.. ورويت له قصتى الوهمية.. وطلبت منه أن أذهب إليه.. فقال: هناك سيدة تعالج أيضا بالقرآن.. وتناسبك أكثر.. وهى «أم على» التى تتقاضى 50 جنيهًا.. لكنها لا توجد إلا أيام «السبت والاحد والاثنين».. وستقوم بتشخيص الحالة.. وهذا الكشف أيضا يبدأ من 20 إلى 30 جنيهًا.. وممكن تقديم هدية لها فى آخر زيارة.. لكنه ليس شرطاً.. وذكر أن ابنته اختلفت بشدة مع خطيبها.. فذهب بها إلى «أم على».. وكانت سيدة جيدة.. تقوم بعلاجها مرتين على مدار أسبوعين.. ولفت نظرى إلى وجود رجل فى مدينة «الطرفاية» يعالج أيضا بالقرأن الكريم.. وأسعاره تناسب الجميع.. ويرى أن ما يميز العلاج بالقرآن.. هو معالجة المريض أمام الضيوف التى بصحبته.
وفور تحدثى مع أطفال القرية عن فكرة العلاج بالقرآن.. التفوا حولى.. مؤكدين على وجود أكثر من شيخ داخل القرية.. وبأقل الأسعار.. وبوفرة.. وكل من يدخل القرية قاصداً هؤلاء الشيوخ.. يخرج فى حالة جيدة.. ويتوقف هذا على عدد جلسات العلاج.
وقال صاحب «توك توك» أن الشيخ «حافظ» كان أفضل من يعالج بالقرآن.. لكنه توفى.. كما أن الشيخ «حمدى» والشيخة «أم على» والشيخ «أحمد» والشيخة «شيماء» هم الأشهر حظاً.. أما الدفع فبنظام الكشف.. مثل الطبيب تماماً.. حتى يشفى المريض.. وذكر أن الشيخ «حافظ» كان بمجرد الدخول إليه.. تتماثل الحالة للشفاء من مرضها.
وتقول الدكتورة «ثريا عبد الجواد»- أستاذ علم النفس بجامعة عين شمس- أن العلم يرفض الأشياء التى تتجاوز الواقع المادى.. لا يؤمن بها.. والسبب أن هذه الممارسات تؤدى إلى انتشار والتخلف فى المجتمع.. فهؤلاء الشيوخ يستغلون عقلية الناس البسطاء المحدودة.. لإثبات وجود أشياء وهمية.. تحرضهم على الإيمان بالجهل والخرافة.. بشكل يجعل حياتهم قائمة على تخاريف وغيبيات.. وهذا بالطبع يؤدى إلى الردة المعرفية والثقافية بين أفراد المجتمع.
وأكدت على دور علماء النفس والاجتماع وكل المؤسسات العلمية.. فى توعية الناس.. والسعى إلى إشاعة الثقافة العلمية فى المجتمع.. حتى يؤمن الناس بقيمة المعرفة.. وهذه هى رسالة العلماء تجاه الإنسانية.. لأنهم إذا تركوا الناس دون توعية.. سنعيش جميعاً فى ظلام الجهل والخرافة.
وأضافت أن حال هؤلاء الدجالين.. كحال كل المجرمين الذين يقبض عليهم.. ولا يعاقبون عقاباً رادعاً.. مما يجعلهم يعودون لإجرامهم مرة أخرى.. ولكن إذ وقع على هؤلاء عقاب رادع.. لما عادوا لمثل هذه الممارسات الإجرامية فى حق المجتمع.. والمثير للدهشة أنهم يواجهون عقوبات هزيلة.. وهذا بالطبع ما يدفعهم إلى العودة لأعمال السحر والشعوذة وبيع الأوهام مرة تلو أخرى.. خاصة فى ظل هذا الإقبال الشعبى الواسع عليهم.. والذى إذا توقف.. فسوف يرتدع هؤلاء.. ويكفوا عن هذه الأعمال.. ولن يلجأوا إلى خداع واستغلال الناس واستنزاف أموالهم.
* هدى منصور - روز اليوسف