في جنوب افريقيا جاء المستعمر راغبا بالبقاء للأبد، وبنفس الطريقة التي جاءت بها الصهيونية لاحقا الى فلسطين، كحالة مستنسخة من النموذج الجنوب افريقي.
حيث أقلية بيضاء من الغرباء تستوطن وتحكم وتملك كل شئ، وأغلبية سوداء هم أصحاب الأرض يعيشون على رصيف الفقر وهامش الحياة، ومنعا للاختلاط كان النظام الأشد قبحا يبني جدران الفصل العنصري بين مدن الجانبين.
لكن مانديلا منح شعبه الحرية، وبعد أن دخل المعتقلات شابا ثائرا خرج منها عجوزا منتصرا، وكان ما فعله يفوق أحلام أكثر مواطنيه تفاؤلا، وأذهل العالم بارادته الصلبة التي لم تنكسر، بل تكسرت أمامها جدران العنصرية البغيضة.
وبعد 27 عاما من الكفاح والاعتقال، قاد بلده نحو المصالحة رئيسا، ولم يفكر بالانتقام ممن عذبوه وسلبوا منه زهرة شبابه، كما ودع السلطة مستعجلا بعد أن أرسى قواعد وأسس المجتمع الذي أمضى حياته ليراه موجودا.
في العام 1995م وصل مانديلا الى مصر، بعد أن أنجز ما عليه، وهو في ذروة مجده، ليخبر الجميع أنه جاء في موعد تأخر ربع قرن ليقابل رجلا كان يرفع رأسه من بعيد ليراه، وأنه يأسف أن عبدالناصر ليس موجودا الآن، في لحظة يبحث فيها مانديلا عنه، وتمنى تحققها منذ زمن طويل.
كان مانديلا يتمنى لو أن عبدالناصر حيا ليرى تلميذه النجيب ماذا حقق لوطنه، وكأن فرحته لم تتم دون حضور معلمه وملهمه للنضال من أجل الحرية، وسببا بما تحقق على يديه من نعيم لعشرات الملايين من السود في وطنه، ولم يكن أمامه سوى البكاء على قبره.
لم يكن ذلك من وحي الخيال فروح عبدالناصر كانت تعيش في وجدان مانديلا وفي اعماقه، وكما منحه الصمود في رحلة بطولته العظيمة، كان مانديلا يشعر بشراكة ناصر فيما انجزه، ويرى بأنه كان يتوجب أن يكون حاضرا لاقتسام لحظات الانتصار.
هذا ما لا يفعله الا العظماء، ومانديلا هو أحد عناوين العظمة، ففي مشهد آخر جرى فيه التنافس على استضافة مونديال 2010 وفازت به جنوب افريقيا على مصر، لم يغب عبدالناصر عنه في لحظة زهو وانتشاء بما وصلت اليه بلده من انجاز وأهمية عالمية، فقال (بأن بلده كانت سوف تنسحب من أمام مصر لو أن عبدالناصر موجودا، لكن مصر اليوم ليست مصر عبدالناصر).
رحل مانديلا وهو يكن لعبدالناصر كل العرفان باعتباره معلمه وملهمه، كما عاش متأثرا بشخصيته كرمز للتحرر، وفخورا به كقائد وزعيم عظيم قاد ثلث العالم، وكان خصما شرسا للامبريالية، وندا للقوتين العظميين في العالم، وان كان يزيده فخرا لكون عبدالناصر ابن افريقيا التي ينتمي اليها، فلم يكن يهمه دين عبدالناصر أولغته أو عرقه، فعبدالناصر كان رمزا للانسانية وملهما لأحرار العالم، كل العالم.
* منقول
من كلمة الزعيم نلسون مانديلا في جامعة القاهرة عام 1995م