صورة تعبيرية
اعتبار الأشعرية والماتريدية انحرافاً عن المنهج السنّي على فترات متواصلة من التاريخ، وتبدأ جولة أخرى من السجال بين الأزهر والسلفيين في مصر.
خلاصة بحث مصطفى زهران 'الأزهر والسلفيون... تاريخ المساجلات الفكرية'، ضمن الكتاب 88 (أبريل 2014) 'الأزهر مرجعية التقليد السُّني في زمن التغيير' الصادر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث- دبي.
نجحت التيارات السلفية في تدشين فضائيات سلفية قحّة، تستوعب أفكارهم وأفكار منظريهم، خاصة في العقدين الأخيرين، سطعت خلالهما رموز سلفية انتشرت على شكل واسع، وأثرّت بشكل كبير في مظاهر التدين، وأضحت وجبة يومية على مدار اليوم لدى الأسر المصرية، وساهمت تلك القنوات في إيصال المنهج والفكرة السلفية المغلفة بالأطروحات الوهابية بشكل مباشر، دون الاعتماد على الذهاب إلى المساجد أو شريط الكاسيت التقليدي، الذي انتفت ظاهرته بعد أن مثّل تصدر المشهد الديني على فترات متواصلة من نهايات التسعينيات، ومن قبل في الثمانينيات، وهو كان أشبه بـ"الخطب الدينية الديليفري"، التي تتناسب مع المناخ السائد بعد الألفية الثانية، وانتشار ظاهرة "التيك أواي"، فيما كان الأزهر لا يزال حبيس أدراجه، ويدور في فلك السلطة أينما دارت أو غدت، فتراجع دوره ولم يشأ أن تكون له إطلالة إعلامية سوى الإعلام الحكومي، الذي لا يلتفت إليه الجمهور أصلاً، معتبرًا إياهم فقهاء السلطة والسلطان.
برز على المشهد الديني والمجتمعي المصري في عشرينيات القرن الفائت، أحد الدعاة السلفيين ويدعى الشيخ محمد عبد الحليم الرمالي، كان قد انتظم سنة 1926م في جماعة أنصار السنّة المحمدية، وعمل بالوعظ والإرشاد في إحدى المدن المصرية في دمياط، في ذلك الوقت أجرت مشيخة الأزهر تحقيقات معه وتحديدًا سنة 1921م، بعد ما نسبت إليه مسائل كثيرة يشكك خلالها في المنهج الأزهري الفكري والعقدي والمنهجي، جلسات النصح والإرشاد المغلفة بالتحقيقات المستمرة كشفت عن بوادر أزمة، ستمتد لعقود تلو عقود بين أصحاب السلفية الوافدة "الوهابية" وبين رجالات الأزهر ومنهجهم وأدبياتهم، التي ارتضعوا لبانها منذ مئات السنين، وقد خرجت التحقيقات في نحو مائة صفحة، محفوظة بدار الوثائق القومية بالقاهرة باسم "تقرير الرمالي"، وخلاصة التهم التي وجهها الأزهرالشريف للرمالي في 1921م، تتمثل في دعوته للتيار الوهابي على النحو التالي:
1- قوله بحرمة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف.
2- إنكار كرامات الأولياء والصالحين.
3- القول بحرمة الصلاة في المساجد التي بها المقامات والأضرحة.
4- سب مجالس الذكر.
5- قوله بنسبة التصوّف إلى الضلال والطواغيت.
6- إنكاره التوسل.
7- تحريمه مشي أهل الطرق الصوفيّة في الجنائز.
8- تحريم السفر لزيارة الرسول.
9- القول بعدم تسويد النبي.
اعترف الرمالي بكل التّهم المنسوبة إليه، ما عدا التهمة رقم (8)، وقد حقق الأزهرالشريف معه ثلاث مرات في عهد الشيخ الجيزاوي، وباشر التحقيق الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي مصر آنذاك، وأسفرت نتيجة التحقيق الأول عن صدور قرار من شيخ الأزهر الجيزاوي ـ بناء على قرار لجنة التحقيق ـ بوقف الرمالي عن العمل، وأمام استئناف الرمالي والتحقيق معه مرة أخرى، قررت اللجنة إنذاره، وكتبت رئاسة المجلس الأعلى بالأزهر الشريف بذلك إلى وزارة الأوقاف، كان ذلك بتاريخ 3 ذي الحجة 1339هـ، الموافق 7 أغسطس سنة 1921م، وهذا التحقيق يدل دلالة واضحة على معارضة الأزهر للوهابيين، خاصة أن من تولى الإشراف عليه شيخ الأزهر نفسه.
هذا النموذج البسيط يعكس صورة المقاومة التي أبداها العلماء أمام السلفية الوافدة الوهابية، والتي كان ينتصر في كثير منها، ولكن ضعفه وقواه التي كانت تتضاءل يوماً بعد يوم والتحافه بالنظام الحاكم كانا دائماً سبباً في تراجع هيبته في أعين العامة والخاصة، وبطبيعة الحال كان يخسر الكثير من الأرض في مقابل ما تحققه السلفية الوهابية من نجاحات على الأرض، نتيجة التزامها الصارخ بالمنهج السنّي بمغالاة شديدة تجذب في كثير من الأحيان جيل الشباب المفرط في حماسته.
ولا بد من الإشارة إلى أن الوهابية ظهرت في مصر في صورة أفراد يحملون الدعوة لأفكار المنهج، فهى سابقة على جماعة أنصار السنة المحمدية التي ظهرت 1926م، فلقد كانوا موجودين بلا تنظيم هرمي ينخرطون فيه ويسيّرون شئون دعوتهم حتى التاريخ أدناه، وكان مؤسس جماعة أنصار السنّة محمد حامد الفقي، يدعو للتيار الوهابي بصورة فردية، حيث بدأ يخطب في مسجد الهدارة بعابدين، وعرف عنه القدرة الفائقة في استمالة الجماهير لخطابه، وتمثلت معظم خُطَبِهِ في الدعوة للوهابية ومحاربة المقامات والموالد والطرق الصوفيّة.
بدأ الفقي ـ بالدعوة الفردية، ثم أخذ ينتقل للصورة الجماعية عن طريق مقابلة عدد من الوهابيين على قهوة "علي قاسم" بعابدين في 1919م، ثم أُوقف عن الخطابة بمسجد الهدارة وعاد مرة أخرى، ففكر مع بعض أتباعه في إنشاء دار للدعوة الوهابية (وهي دار أنصار السنّة)، فتم له ما أراد وأنشأ داراً في 1926م.
بطبيعة الحال، أصبح للوهابيين مقر رسمي ودار معروفة ورئيس لجماعتهم، وانتظم الوهابيون في مصر تحت راية أنصار السنة المحمدية، باعتبار أن جماعة أنصار السنة وهابية بحتة، وعرفت الفترة ما بين 1919ـ 1925م، بالسجال الحاد بين علماء الأزهر وأنصار السنة.
وفي العقد السابع من القرن المنصرم، وهي الفترة التي استوت خلالها الرؤية السلفية الوهابية، فقد تمت المصاهرة الفكرية بين المصريين ووهابية السعودية، ودشنت الدعوة السلفية بالإسكندرية على يد الشيخ أبو إدريس ورفاقه الشيخ محمد إسماعيل المقدم وياسر برهامي ومجموعة الإسكندرية، الذين كرّسوا لأدبيات تقف أمام المنهج الأزهري "المنحرف"، كما كانوا يصفونه، معتبرين الأشعرية والماتريدية انحرافاً عن المنهج السنّي الذي عرفه الأزهر على فترات متواصلة من التاريخ، وتبدأ جولة أخرى من السجال بين الأزهر والسلفيين في مصر.
* ميدل ايست أونلاين