يؤلمني أن نُدخل الموقف السياسي للعالم في تقويم علميته أو حتى أمانته ، فنرفعه علميا فوق منزلته العلمية .. إذا وافقنا سياسيا ، ونحط من قدره العلمي .. إذا خالفنا سياسيا ؛ فالعلمية شيء , وصوابه أو خطؤه في مواقفه السياسية شيء آخر .
لقد تعودنا على الخلط في الموازين ، تعودنا على الأحكام العاطفية ، تعودنا على عدم الموضوعية .
فمع الفرق الكبير بين العلمية (المقدرة العلمية الشرعية) وسلامة الموقف السياسي ؛ فإننا نغفل أيضا عن أن المواقف السياسية ينتابها ما ينتاب مسائل العلم من كون الخلاف في بعضها خلافا سائغا (كما أن منه غير السائغ) ، لخفاء دلائله وظنية ترجيحاته ، بل هذا الأمر في السياسة أظهر ، لشدة تعقيدها ، وحياطتها بسياج من الكيد والمكر والتلاعب والمؤامرات ، فكيف لا يُعذر المخالف فيها ؟!
كما أن المواقف السياسية في عالمنا العربي من أكثر القضايا التي يجب الإعذار فيها بالإكراه والخوف من بطش السلطان ، والعلماء في حكم ذلك كغيرهم ، يجوز لهم الأخذ بالرخصة ، ولا يجب عليهم جميعا أن يقفوا موقف الإمام أحمد والعز ابن عبد السلام في الصبر على السجن والتعذيب والتعرض للقتل أو إلى التهديد بها .
ولولا ذلك لأسقطنا عامة العلماء الذين خضعوا للسلطان في زمن الإمام أحمد ، وهم عامة العلماء والأئمة في عصره .
وفي مثال لذلك :
قريبا كان الشيخ القرضاوي عضوا في هيئة كبار العلماء في الأزهر ، واحتفى به خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز (وفقه الله) ، ووصفه سماحة مفتي السعودية بأنه لا يُستغرب عليه أن يقف مواقف كبار العلماء ، لما وافقه في الموقف من الشيعة .
ثم فجأة أصبح بعد مواقفه السياسية : جاهلا ، ليس عالما !! هذا ليس موضوعية ولا عدلا ، بغض النظر عن موقفه السياسي : موافقة أو مخالفة :
وفي المقابل :
هذا الشيخ العلامة محمد سعيد رمضان البوطي (رحمه الله) : أصبح عند قوم جاهلا منافقا ، لموقفه السياسي . رغم الخسائر الكبيرة التي منيت بها الثورة السورية ، والتي حتى لو حققت هدفها الآن في الإطاحة بالحكومة ، لوجد السوريون أن خسائرها أكبر بكثير من مرابحها ، مما يوجب التماس العذر له في موقفه (على أقل تقدير) .
وتعمدت اختيار صورتين متناقضتين بالنسبة للتيارات الإسلامية : فكثير من الصوفية مع البوطي ضد القرضاوي ، وكثير من السلفية ضد البوطي ومع القرضاوي ؛ ليكون ذلك أدعى لمراجعة النفس والإنصاف .
صَفّوا موازين العلم من قاذورات السياسة ، وإن اتسخت ثياب بعض العلماء بها أحيانا ؛ إنصافا للعلم ، لا لشيء آخر !!
وأقول لكثير من المسلمين : تطلبون من العلماء ما لا يجب عليهم شرعا ، وما رخص لهم فيه ربهم ، من النطق بكلمة الكفر عند الإكراه .
فتطالبونهم بدرجات الأنبياء ، ثم لا تطيعونهم !! ثم تقولون : نحن نرفض الكهنوت ! أتريدونهم كهانا فقط في الموت والتعذيب ، ولا تريدونهم علماء مطاعين في الحياة .
وأقول لبعض العلماء : دعوا ممارسة الكهنوت في الحياة ، حتى لا يطالبكم الناس بكهنوت الفداء والموت والتعذيب ، أنتم بشر ممن خلق ، لكم ذنوب ومعاصي ، وتوبات ودموع أوبات .
* الشريف حاتم بن عارف العوني
* من صفحة الشيخ محمد ابوبكر باذيب