‘‘ الآن يحق للحضارم خاصة والعرب عامة أن يفاخروا بهذا الكتاب‘‘
مجالس أدبية في ديوان المتنبي
تأليف : علامة حضرموت ومفتيها الشريف عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف ( 1300 - 1375 هـ )
عني به : محمد الخطيب وقدم له الدكتور عائض القرني
العود الهندي
عن أماليَّ في ديوان الكندي
من أبدع ما كتب في فن الأمالي ، في عصر كاد هذا الفن فيه أن يغيب ، ولولا علم القارىء بالمؤلف .. لحسب أنه قطعة أدبية طوتها يد الزمان حقباً متتالية ، لتظهر اليوم حالية جالية .
وهذا الكتاب واحة غناء ، يُستَجَم فيها من عناء الفِكْر ، ومن ثقل الهموم ، ومن عنت الحياة .
وقديماً قال الشَّاعر :
أفد طبعك المكـدود بالهمِّ راحـةً بحـزمٍ ، وعلِّلْــــــه بشـيءٍ من المزح
ولكن إذا أعطيته المزحَ .. فليكن بمقدار ما تعطي الطَّعامَ من الملح
من هنا تبرز الحاجة لمثل هذا السِّجل الأدبي ، الحافل بالدَّقائق الأدبيَّة وفق الضَّوابط المنظِّمة لهذه الأُمور .. فلا إفراط ، ولا تفريط .
والمؤلِّف ـ رحمه الله ـ مـمَّن أخذ بحظِّه الوافر من علوم الشَّريعة .. حتَّى وصل إلى درجة المفتي لبلاده ، وكذلك في الأدب والشِّعر كان فارس الميدان ، ومن المشار إليهم فيهما بالبنان .
ولهذا .. جادت عبقريته الفذَّة بهذا الكتاب البديع ، الَّذي نظم سلكه في مجالس أدبيَّة ، يفوح منها ندُّ الطِّيب ، وهي مجالس معقودة في « ديوان أبي الطَّيِّب المتنبِّي » ، فكان التَّناغم الواضح بين رائحة العود الهنديّ ، وكنية شاعر العربيَّة الأوحد أبي الطَّيِّب المتنبِّي ، وكأنَّه يستنشق أريج أشعاره .
ونحن في تعريفنا المختصر .. لا نريد أن يفلت منَّا العِنان ، فنسبح في هذه الواحة المترامية الأطراف ؛ فهذا أمر لا يغني عنه إلاّ المطالعة للكتاب .
وإنَّما أردنا أن نذكر هنا : أنَّ المؤلِّف قَسَّم كتابه بحيث إِنَّ كلَّ قسم يحوي ذكراً وبياناً لبعض من شمائل العرب ، من الكرم والوفاء ، والمروءة والشَّجاعة ، والسَّماحة والبلاغة ، والسَّخاء وعزة النَّفس ، وطيب المَحْتِد ، وغيرها من الصِّفات الَّتي قال عنها صلى الله عليه وسلم : « إنَّما بعثت لأُتمم مكارم الأخلاق » .
وهذا الكتاب من الكتب الأدبيَّة الَّتي لا يُستغنى عنها في الباب ، والَّتي ستبتسم لها لغة الضَّاد ، إن شاء الله تعالى .
وبالله التوفيق.
***
المقــــــــــدمة التي كتبها الشيخ د. عائض عبدالله القرني
مقدمة «العود الهندي»
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
ففي يوم مشرق الطلعات أهدى لي أحد الأصدقاء وأنا في الكويت كتاب «العود الهندي» للعلامة عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف، فأخذت الكتاب وأنا في طريقي إلى المطار أتصفحه فأسرني بسحره، وسحرني بأسره، وبهرني بنوره وأبهجني بجماله، حتى صرت في صالة المطار في شبه ذهول، كأنني خرجت من عالمي لا أحس بأحد بجانبي ولا أدري أين أنا وكلما قلبت منه صفحة زادني نشوة وطربا، وملأني روعة وعجبا، فما تركت المجلد الأول من يدي حتى ختمته، ثم أتممت الكتاب وأعدت النظر فيه أفليه، أترنم به، أذوقه، أشمه، أحتسيه، أرفع عقيرتي بأبياته، أبكي مع المؤلف وأضحك معه، أسافر في زورق إبداعه، أعجب من اطلاعه وحسن سبكه وجميل صياغته ولطيف إشارته وعذوبة عبارته، ورقة طبعه وسيلان ذهنه، وحضور ذاكرته وبراعة استدلاله، وقوة انتزاعه وسلامة فطرته وصفاء مشربه، ثم هو مشبوب العاطفة جياش الفؤاد غزير الدمعة، خفيف الروح ذو ذاكرة وقادة، وطبيعة منقادة، يصيب المرمى ويجيد التصويب، مع علم غزير ومادة حاضرة، فهو علامة فقيه، محدث مفسر أديب شاعر ينظم عقود جواهره بآية محكمة أو حديث صحيح أو بيت لطيف أو فائدة شرود، أو قصة موحية، أو حكاية مشجية، أو مثل سائر، فهو يتأنق بك في روضات ممرعات دمثات، وينزل بك في حدائق ذات بهجة من نصوص مشرقة ومحفوظات نافعة، وقد أحضر روحه وسكب مع قلمه نبوغه وأفرغ شآبيب عبقريته مع براعته، وكأني به وهو يكتب هذا السفر في وهاد حضرموت قد ودع نومه، وفارق كراه وتصدق على النجوم بنعاس أجفانه، وتخيلت أن دمعه مازج حبره، وأن ضحكه صادق صريف أقلامه، وأن تبسمه شابه بياض أوراقه، فلله هو كيف استطاع أن يقتحم معاقل قلوبنا وأن يستولي على ثكنات نفوسنا؟! ولكن صدق المعصوم صلى الله عليه وسلم: «إن من البيان لسحرا».
عشت مع السقاف في عوده الهندي فنسيت كل كتاب أدبي أو ديوان شعري قرأته، مع العلم أنني من الصبا وأنا أبدي وأعيد في الموسوعات الأدبية حتى صرت بمعالمها أهدى من سرب القطا إلى عشه فلما طالعت العود الهندي صحت:
محا حبها حب الألى كن قبلها وحلت مكانا لم يكن حُلّ من قبل وقلت: الآن يحق للحضارم خاصة والعرب عامة أن يفاخروا بهذا الكتاب.
وقلت في نفسي: ليت السقاف صبر وأكمل لنا عشرة مجلدات على السياق نفسه وهذا المساق عينه، لكن يظهر أنه أدرك مشهد: «والتفت الساق بالساق»، فغفر الله له وأكرم نزله.
ولو طالعت مجلداتي من «العود الهندي» لوجدتها قد تفصمت عراها ونحلت أوراقها من كثرة التقليب والتفتيش، وقد ساعدني السقاف على استخراج زفرات الحنين المدفونة في جوانحي، واستنزاف بقايا من دموع غائرة في محاجري:
قَد كُنتُ أُشفِقُ مِن دَمعي عَلى بَصَري فَاليَومَ كُلُّ عَزيزٍ بَعدَكُم هانا كنت أحدث الناس في المجالس عن الكتاب وأسره وسحره وسطوعه ولموعه وشوارده وفوائده، فلا أجد إلا الواحد أو الاثنين يفهمني لكثافة الطبع وثخانة الخاطر وثقالة الدم والانهماك في الماديات من مطعم ومشرب وملبس ومركب حتى صار العقل كتلة من الفول السوداني المدمس المثلج تحت درجة الصفر لسقوط الهمم، وبرود العزائم، وجمود القرائح، وخمود الذاكرة: «وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب».
ما في الخيام أخو وجدٍ نطارحه حديثَ نجدٍ ولا خلٌّ نجاريهِ
ولقد أمتعني السقاف بدعاباته وفيض تعليقاته، فمرة يثني على صاحبه المتنبي ويسيل قلمه معجبا بهذا النبوغ حتى يسأل الله أن يتجاوز عنه لحكمته وبراعته، ثم يعود عليه بالذم صادقا لهزال بعض أبياته ولكن بصدمات كهربائية لاذعة كقوله: هذه الأبيات لا تحصل إلا بخذلان من الله.
وكقوله: هذه الأبيات من رقى الشيطان وتمائم إبليس .
والسقاف مدرسة في الذائقة الجمالية الأدبية فحسبك به معرفة لجزل القول وناصع الكلام وخالص الحديث، بل هو إمام في النقد الأدبي، وهو كاتب ساخر إذا أراد، وراوية ملهم، وقاص مشج، وشاعر لا يشق له غبار مع حفظه لناموس الشريعة وهيبة الملة، ومقام الدين، وهذا الذي فاق به على كل الأدباء، ولا أدري كيف استطاع أن يؤلف بين القرين وقرينه من الشواهد، فهو ينثر أمامك المصادر ويعزو إليها في الغالب، وعنده ملكة الاصطفاء وموهبة الاختيار، فلا تقع عينه إلا على الأجل الأجمل، ولا يصطفي إلا الغالي النفيس، ويا له من مؤلف موهوب يضع الآية بجانب الأثر والبيت في صف المثل، والقصة تلو القصيدة، ولن تمل مع السقاف أبدا؛ لأنه لا يتركك تمل، إذ يشجيك ويبكيك ويضحكك ويسبيك ويقص عليك وينعشك ويهزك ويطربك، وكلما سافرت معه في هذا الكتاب الماتع الذائع الرائع الشائع، صحت :
أين أهل الأدب الهزيل والشعر الهش والقول الساقط من هذا الفيض الوجداني والسحر الأدبي؟!
وأين دعاة الهذيان من مملكة الإبداع، وإيوان الإقناع، وبهجة الخاطر الذي فتح لنا السقاف آفاقه، وسكب فيه ترياقه، وألهبنا بأشواقه وإشراقه؟!
وليت أهل العلم والفقه والفتيا يرطبون مشاعرهم بهذه النفحات الأدبية ليعذب قولهم وتجمل عباراتهم كما كان ابن عباس والشعبي والشافعي وغيرهم من علماء الأمة، حيث يذوب كلامهم رقة وعذوبة وحلاوة وطلاوة. إنني أرشح كتاب «العود الهندي» للسقاف منهجا دراسيا في الأدب وموردا عذبا في النوادي والجامعات والمدارس ونهرا صافيا لرواد البيان ورموز الفصاحة وصناع الحرف الجميل: «عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا»، مع الشكر الجزيل لدار «المنهاج» التي أتحفتنا بهذا الكتاب الرائع.
لتحميل الكتاب : اضغـــط هنـــا