التعليم و استمراريته اليوم في خطرٍ حقيقيٍّ مرة أخرى، بعد أن تحوّلت الدعوات إلى استئنافه إلى صرخة في وجه العجز و الفشل.
فشلٌ و إخفاقٌ في تحمّل المسؤولية ، و هروبٌ واضح من أداء الواجب ، يعكسان صورة قاتمة و سوداوية تجاه قضيةٍ لم تعد تؤرق فئة محددة من المجتمع ، بل باتت تمسّ الأمن والسلم الاجتماعي برمّته.
تأخّر صرف الرواتب الحكومية تحوّل إلى معضلةٍ مزمنة ، تكشف عجز حكومةٍ اعتكفت ، و مجلس قيادةٍ بهيئاته المختلفة — القانونية و الاقتصادية و التشاورية — أخفق جميعها في تحويل الأزمة من فشلٍ إلى نجاح ، أو حتى في تقديم حلولٍ مرحلية تلامس واقع الناس.
عاد التلويح بالإضراب إلى الواجهة من جديد ، و غابت الحلول مرةً أخرى .
لسنا من دعاة تعطيل العملية التعليمية أو تعطيل مصالح الناس ، بل كنا — و ما زلنا — نؤكد على ضرورة استمرارها و دعمها، لكن السؤال الذي يفرض نفسه:
إلى متى سيستمر هذا التعسّف بحق موظفي الدولة مدنيين كانوا أم عسكريين؟
إلى المسؤولين الحكوميين ، و إلى مسؤولي الظل وأصحاب النفوذ السياسي الفعلي ، نقول:
كفّوا عن إنهاك ما تبقّى من موردٍ إنساني قبل المادي في حياة الناس ، فأنتم من تسبب في هذا الخراب حتى اللحظة ، و أنتم وحدكم القادرون — إن شئتم — على إصلاحه . لقد استنفر علي عبدالله صالح كل قواه اليمنية لإحلال ثقافةٍ تعادي نفسها ، و تستنسخ من ذاتها ثقافاتٍ مصغّرة مدمّرة للثقافة الأصيلة السلمية و المتمدّنة ، ليرسي بديلاً عنها ثقافته الخاصة ، و يسقطها على المجتمع المدني بسلطة الحكم و نفوذ الدولة.
استثمر صالح كل الفرص الممكنة لترسيخ تلك الثقافة في واقع الناس ، و نجح في ذلك ، لأنه وجد من يتلقّف فكره و يعمل به ، حتى أخضع الجميع لمنطقه ، فغدت ثقافته ميزان الولاء و الانتماء ، لا ميزان القيم ولا المدنية . و للأسف ، ما زلنا حتى اليوم ندفع ثمن تلك الثقافة التي تسلّلت إلى العقول قبل المؤسسات ، فشوّهت الوعي وأعاقت قيام الدولة المدنية المنشودة.
الفضاء المفتوح.. حين سقط ميزان الكلمة والمحاسبة ، لم يعد التهديد ولا التخوين ، ولا استخدام المنصات ، منصبًا على قطاعٍ بعينه أو فئة محددة أو مهنة بذاتها. لقد اتسع الفضاء الرقمي حتى غدا ساحةً مفتوحة بلا حدود ، يتداخل فيها صوت العقل مع ضجيج الفوضى، و تختلط فيها الحقيقة بالتحريض ، والرأي بالاتهام . لم يعد هناك من يخاف من توجيه اللوم — بل و الإساءة — في وجه الدولة أو المسؤولين أو رجال الأمن أو القيادات الإعلامية و السياسية ، وأصبح الباب مفتوحًا للترصّد و إطلاق الألفاظ النابية و الاتهامات العلنية دون خوف أو وجل من المحاسبة . فمبدأ المحاسبة نفسه فقد وزنه وهيبته عند من يفترض بهم أن يصونوه ويحموا مكانته .
لقد أسأتم إلى مكانة المسؤولية ، و إلى هيبة الدولة التي كان ينبغي أن تظلّ مصونة فوق الأهواء و المصالح.
أسأتم إلى الرعاية التي أنيطت بالدولة و مؤسساتها تجاه الصالح العام ، حين جعلتموها رهينة التجاذبات ، و مسرحًا للمزايدات ، و ميدانًا لتصفية الحسابات .
و للأسف ، لم تعد هناك قدوة حسنة لدى فلذات أكبادنا بعد كل ما يحدث و يجري من حولهم . ضاعت الملامح التي كنا نتمسك بها يومًا كقيمة و سلوك و مثال يحتذى ، و تبعثرت المفاهيم بين واقعٍ مضطربٍ و مشهدٍ لا يليق بمستقبلهم .
فكيف نطالب أبناءنا بالصدق في زمنٍ يُكافأ فيه الكذب؟ و كيف نغرس فيهم الإخلاص ، وقد رأوا الخيانة تُزيَّن بأسماء المصلحة و الحنكة؟ لقد انكسرت القدوة أمام أعينهم ، ولم يبقَ لهم سوى ذاكرة تبحث عن نموذج يعيد المعنى لما فقدوه من ثقة في الكبار وفي الدولة وفي كل ما يمثلها.
لكن عدن — كما عهدناها — لا تموت ، و ستنهض بثقافتها المدنية من بين الركام ، لأنها خُلقت لتكون مدرسة الوعي ومحرّك التغيير.
المحامي/ جسار فاروق مكاوي .