في كل أرجاء المعمورة، نشأت حضارات بفعل عوامل اقتصادية ومقومات طبيعية، امتدت جذورها عبر العصور، وما زالت شاهدة على عظمتها حتى يومنا هذا؛ مثل قاهرة المعز، وباريس، وبغداد، وسواها. لم تنشأ تلك الحضارات من فراغ، بل كانت الأنهار والبحار والموارد سبباً في قيامها واستمرارها، أما الحضارات التي غابت، كأرض الجنتين وتدمر، فلم تغب عبثاً، بل بسبب غياب تلك المقومات أو بفعل التدمير الممنهج.
وأنا هنا أتحدث عن عدن…المدينة التي لا تعيش زمناً عادياً، بل تمر بأسوأ مراحلها على الإطلاق.
لم تعرف عدن حقبة أشد قبحاً، ولا جيلاً أكثر انحداراً ممن تسلطوا عليها اليوم، جيلٌ فشل في الإدارة، ونجح فقط في السقوط الأخلاقي.
نحن محاصرون وسط أبشع مجموعة بشرية عرفها تاريخ المدينة، بشر لا يعرفون الشرف، لا يحترمون تاريخاً، ولا يملكون ضميراً.
يقتاتون من معاناة الناس، ويتغذّون على موت الأحلام،
نهبٌ منظم، وفسادٌ فاضح، وكذبٌ ممنهج، وتدميرٌ لكل قيمة أو كرامة.
هذه ليست مجرد عشوائية…إنها جريمة مستمرة تُرتكب على مرأى ومسمع الجميع، وتُجمّل بأعذار باردة كـ "الواقع يفرض نفسه" و"الضرورة تقتضي".
إلى متى ستظلين، يا عدن، فريسة للعبث والخذلان؟
ألا يحنّ عليكِ ضمير؟
ألا ينتفض فيكِ من تبقّى له قلب حيّ؟
كل يوم تُنهبين بصمت، ويُشوَّه وجهكِ الجميل، ونحن نكتفي بالمشاهدة…كأنكِ لستِ أمّنا، ولا وطناً، ولا هوية.
لكن، واللهِ، لن تموتي يا عدن.
حتى لو خذلكِ الجميع، ستبقى روحكِ حيّة فينا.
ستعودين كما كنتِ…كما تستحقين.
فلا ليلٌ يدوم، ولا ظلمةٌ تبقى…لابد للفجر أن يجيء، ولابد للظلم أن يندثر.
عدن اليوم تُختطف، تُهان، وتُحرق ببطء على أيدي حفنة من شرعية الاحتلال.
من ظنّوا أنفسهم آلهةً على بؤس الناس، بينما تركوا المدينة في ظلام الفوضى والخذلان.
وإنّ السكوت عنهم شراكة، والتغاضي عنهم خيانة.
عدن لا تقبل الخيانة..!
لا يظننّ أحدٌ أن صبر الوطن ضعف…فعدن منبع القوة.
إن أطعمت، أشبعت…وإن غضبت، أوجعت،
تاريخها شاهد، وهدفها واحد لا يلين.
علّمت أبناءها دروس الرجولة، ورسمت على جباههم وسم الفخار،
فكانوا وما زالوا حماةً للوطن، في عيونهم وقار، وفي قلوبهم عنفوان ونار.
هذا هو الجنوب الذي نحب، وله أعمارنا نهب،
وإن نادانا، لبّينا النداء،
فعدن هي الأم، الحنون، الرحيم، الرؤوم..!!
الجنوب سيظل حراً أبياً شامخاً لا ينكسر..
✍️ ناصر العبيدي