حين نتأمل حلم استعادة الدولة الجنوبية، نجد أنفسنا بحاجة ماسّة لإجابات كبرى عن أسئلة البناء: من أين نبدأ؟ ما هي الأولويات؟ ما شكل الدولة المنشودة؟ ولأن الدولة ليست مجرد سلطة تُمارَس، بل فكرة تُؤسَّس، نعود إلى المفكرين – عربًا وعجمًا، قدماء ومحدثين – نستأنس بعقولهم، ونحاور تجاربهم.
الفارابي: الدولة الفاضلة تبدأ بالحكمة
فيلسوف الإسلام الأبرز في السياسة، الفارابي، رأى أن الدولة لا تستقيم إلا إذا قادها "الرجل الفاضل"، الذي يجمع بين الحكمة والشجاعة والعدل. المدينة الفاضلة عنده لا تبنى بالسلاح، بل بالفضيلة، ويضيع مستقبلها حين تتصدرها الجهالة. وهذه دعوة لنا في الجنوب لإعادة تعريف "النخبة"، فلا تكون الزعامة مَن يرفع الصوت، بل مَن يحمل الرؤية.
ابن خلدون: لا دولة بلا عمران وعدالة
رأينا في المقال السابق كيف يضع ابن خلدون العدل أساسًا للملك، ويرى أن الظلم خراب للعمران، وأن الدولة تبدأ بعصبية جامعة، لكن تبقى بالعدل والتنمية. ابن خلدون كان يُنذِرنا: لا يغركم الحماس الثوري، فالدولة غير الثورة، والثابت في الأمر أن الظلم والانقسام هما أقصر الطرق للسقوط.
الكواكبي: احذروا الاستبداد باسم الوطنية.
في كتابه "طبائع الاستبداد"، يصرخ الكواكبي: لا وطن بلا حرية، ولا تقدم تحت ظل المستبد، ولو رفع ألف شعار وطني. الدول تنهار حين يُختزل الشعب في الحاكم، والوطن في الصوت الواحد. وهنا يضع لنا خارطة طريق واضحة: الحرية، العدالة، والتعليم أولًا.
فيبر: الدولة هي التي تحتكر القوة… لا المليشيا.
المفكر الألماني ماكس فيبر رسم تعريفًا حاسمًا للدولة الحديثة: "هي الكيان الذي يحتكر الاستخدام المشروع للقوة داخل المجتمع". لا يمكن بناء دولة في ظل تعدد المراكز المسلحة، ولا مع سلطات خارج القانون. الجنوب يحتاج إلى جيش واحد، وأمن موحد، ودولة تقود لا تتقاسم السيادة.
روسو: الشرعية من إرادة الناس لا من الوراثة
جان جاك روسو، أحد آباء العقد الاجتماعي، كان يردّد أن السلطة لا تكون شرعية إلا إذا عبّرت عن الإرادة العامة. الدول لا تُبنى على الإكراه أو التغلب، بل على التوافق والرضا. ولعل الجنوب اليوم بحاجة إلى عقد اجتماعي جديد، يضمن مشاركة الجميع، وتوازن المصالح، وتغليب المشروع على الأشخاص.
المفكرون كمرآة لحلم الدولة.
ما يجمع هؤلاء المفكرين هو إيمانهم بأن الدولة لا تولد عشوائيًا، بل تُصمَّم كما يُبنى بيت، على أسس ثابتة: هوية، عدل، قانون، مؤسسات، تعليم، واقتصاد. هذا ما يحتاجه الجنوب ليشق طريقه نحو الدولة، لا تكرارًا لماضٍ انهار، ولا خضوعًا لحاضر مأزوم، بل تأسيسًا لمستقبل ناضج.
أخيرا ، لا نحتاج لاستيراد نموذج جاهز، لكننا نحتاج أن نصغي إلى صوت الحكمة في تراثنا وتراث الإنسانية. فبناء الدولة ليس شعارًا يُرفع، بل مشروعًا يُدار.
وهذه المهمة ليست حكرًا على فئة، بل شراكة بين الجميع: شعبًا، ونخبة، وقيادة.
ولعل أعظم ما نستلهمه من كل المفكرين: أن الدولة التي تبنى على العدل تدوم، وتلك التي تبنى على الخوف تسقط، ولو تأخرت.