شكلت حرب 1994 ضربة قاسية للجنوبيين، وكان وقعها أشد تأثيرًا على جيل الأبناء أكثر من جيل الآباء، الذين اضطروا للتسليم بالأمر الواقع بعد سقوط دولتهم. هذه الحرب لم تكن مجرد معركة عسكرية، بل خلفت آثارًا كارثية اجتماعية واقتصادية، حيث أجبرت الآلاف من الكوادر الجنوبية على الهجرة إلى الخارج، فيما بقي من تبقى في الداخل في حالة من الضياع والذهول وصراع مستمر مع ظروف الحياة القاسية.
أدت عمليات الإقصاء والتهميش، التي حرمت عشرات الآلاف من وظائفهم المدنية والعسكرية، إلى نتائج سلبية امتدت للأجيال التالية، خاصة مع الانهيار الذي أصاب المنظومة التعليمية وانتشار الفساد، وهو ما تسبب في إفراغ الجنوب من كوادره وخبراته لصالح الشمال.
وعلى الرغم من الانتصار الجنوبي في حرب 2015، إلا أن آثار الصدمة لم تتلاشَ، بل تفاقمت بسبب التدخلات الإقليمية والدولية، التي أعادت ربط قضية الجنوب بصنعاء، إلى جانب الفشل الجنوبي في مواجهة التحديات الجديدة. والأخطر من ذلك أن هذه الصدمات تراكمت، مما يعني أن آثارها لن تتوقف عند هذا الجيل، بل ستمتد إلى الأجيال القادمة.
واليوم، نشهد مؤشرات خطيرة تهدد مستقبل الجنوب، حيث تتزايد معدلات الهجرة والتشرد في الخارج، في ظل إغلاق معظم المدارس وتراجع مستوى التعليم الجامعي، مما ينذر بكارثة مستقبلية إذا لم تتم معالجة الوضع سريعًا. إن إعادة الاعتبار للجنوب وشعبه بعيدًا عن أي وصاية كانت لم يعد خيارًا، بل ضرورة ملحة لإنقاذ الأجيال القادمة من الضياع.
لذلك، لا يمكن الحديث عن غياب الكفاءات الجنوبية أو ضعف الإنتاج الثقافي والفني، دون الأخذ بعين الاعتبار العوامل التي أضعفت الجنوب بعد 1994.
فمنذ تلك الفترة، تعرض الجنوب لسياسة ممنهجة من التهميش والإقصاء، ما أدى إلى استبعاد الكوادر من مواقعها الطبيعية في مختلف المجالات. إضافة إلى ذلك، فإن تدهور المؤسسات التعليمية والخدمية وغياب الفرص جعل البيئة الجنوبية طاردة للمواهب والكفاءات.
وعلى الرغم من هذه العوامل، أثبت الجنوبيون أنهم لا يقلّون إبداعًا وتميزًا عن غيرهم، والدليل أن الكوادر الجنوبية التي هاجرت وصلت إلى مواقع بارزة في مختلف المجالات في الخليج وأوروبا وأمريكا، مما يؤكد أن المشكلة لم تكن في القدرات، بل في تبعات تلك الصدمة العميقة التي ما زالت تلقي بظلالها حتى اليوم.
إنقاذ الجنوب من هذا الواقع يتطلب نهضة حقيقية في التعليم، وفرص عمل عادلة، وإعادة بناء المؤسسات التي تحتضن الكفاءات بدلاً من أن تدفعها إلى الهجرة، وهو ما لن يتحقق إلا بمشروع وطني يعيد الجنوب إلى مكانته الطبيعية، بعيدًا عن التبعية أو الوصاية.
#ياسر_اليافعي