كنت قد تحدثت مع صديق مصري في التليفون عن هذا الأمر، وأشار إلى أنه ليس من الحكمة تحدي اليمنيين لأقوى جيش في العالم، فنتائج ذلك ستكون وخيمة على اليمنيين..
قلت: نظريا هذا صحيح، وبالمصري (مفيش عاقل يقف قدام القطر) يعني مجنون من يفكر في اعتراض القطار إلا لو أراد الانتحار..
لكن لقصة اليمن وحرب باب المندب طبيعة أخرى أجملها فيما يلي:
أولا: ليس من عقيدة الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية (التدمير الشامل) هذه عقيدة إسرائيل، لكن أمريكا ومنذ عهد كيندي استبدلت هذا الشئ الذي عرف عن جنرالات الحرب العالمية بما يسمى ثنائية (الدعم المالي والمساعدات مع التكنولوجيا) كوسيلة للهيمنة والسيطرة.
فالتدمير الشامل يعني أنه من حق خصوم أمريكا تدميرها أو تدمير حلفاؤها تدميرا شاملا، فضلا عن عدم خلق القدوة والنموذج اللامع الذي يطمح إليه الأمريكيون في المنافسة، وهو ما يعني أن أي تدمير شامل لشعب ومدينة سيصب آليا في مصلحة خصوم أمريكا، وبالتالي يخصم ذلك من رصيدها الجيوسياسي.
ثانيا: من بعض ما يثبت ذلك أنه وخلال الغزو الأمريكي لأفغانستان عام 2001 هدد "ريتشارد أرميتاج" نائب وزير الخارجية الأمريكي باكستان ورئيسها برفيز مشرف بإعادة باكستان للعصر الحجري إذا لم تتعاون معه في أفغانستان، لكن بوش رفض ذلك وتحدثت الصحافة عن نتائج هذا التصريح الخطير على سمعة أمريكا دوليا.
كذلك تقبيح صورة وسمعة وسيرة الجنرال "كورتيس ليماي" مجرم الحرب الأمريكي في سلاح الجو أثناء الحرب العالمية الثانية، والذي اشتهر عنه تدمير مدن اليابان تدميرا شاملا، ورفض نصائحه بتدمير كوبا وفيتنام تدميرا شاملا في الستينيات، حيث كان قد نصح ليماي بتدمير شمال فيتنام بضرب كافة الجسور والمصانع والشركات والموانئ الفيتنامية، وكذلك ضرب كوبا بالقنبلة الذرية، ولولا القوة النووية السوفيتية هذا التوقيت ما فكر الأمريكيون في اتخاذ القرار، لكن سياستهم الجديدة بمشروع مارشال إضافة لتوازن الردع الدولي أذهب تماما فكرة التدمير الشامل أو حتى التهديد بها.
ثالثا: بالنسبة لليمن فهي ليست مغنما أمريكيا تسعى واشنطن لاحتلاله، ربما ذلك من الماضي، أو ربما يفكرون فيه بالمستقبل، لكن الولايات المتحدة لم تنشغل باليمن في العقود الماضية، وهو الذي أفقدها المعلومات الاستخبارية عن قوة أنصار الله الحوثيين، أو معادلات القوة وتوازن الردع بين القبائل، أو الثقافة التي تمكنهم من مخاطبة الحوثيين بشكل مناسب لدفعهم للمفاوضات..
القصف الحالي يعمل في سياق الضغط العسكري على قادة أنصار الله لدفعهم إلى وقف قصف إسرائيل وسفنها ليس إلا، وبالطبع لدى أمريكا القدرة على زيادة معدل القصف وبالتالي إحداث نوع مؤثر من الضغط، لكن سيكون ذلك على حساب المصالح الأمريكية التي قررت منذ الحرب الكورية في الخمسينات بمنع استخدام التدمير الشامل واستبداله بالمساعدات والتكنولوجيا..
رابعا: يعني أمريكا تطمح في أن تكون اليمن صديق تساعده بالمال والتكنولوجيا، لكن ليس على حساب إسرائيل طبعا، وهي في خضم حل تلك المعادلة الصعبة الآن تحاول إيجاد حلول عملية لاحتواء اليمن قبل استفحال مشكلته، وأقصد باستفحال مشكلته أن أنصار الله لا يظهرون أي نوع من المرونة بخصوص مفاوضات وقف القصف على إسرائيل قبل وقف العدوان على #غزة مما قد يدفع بعض جنرالات الحرب الأمريكيين باتخاذ قرار بالتدمير الشامل.
خامسا: في حال لجوء أمريكا للتدمير الشامل في اليمن يحدث ما يلي:
1- إعطاء المبرر لروسيا بالتدمير الشامل في أوكرانيا ودول البلطيق التي ستكون أول المتضررين بعد أوكرانيا من تمدد الحرب، وفي هذه توجد قواعد حاكمة للعلاقة بين أمريكا وأوروبا في حلف الناتو بخصوص التصعيد العسكري في أي مكان بالعالم.
2- تصبح 55 قاعدة أمريكية في الشرق الأوسط، إضافة إلى 4 آلاف شركة أمريكية بدول الخليج تحت رحمة القصف اليمني، وفي هؤلاء يعمل أكثر من 50 ألف أمريكي أصبحت أرواحهم عرضة للخطر.
3- تصبح عشرات الموانئ النفطية بدول الخليج مهددة مما يهدد سلاسل توريد الطاقة ويرفع سعر البترول لأرقام قياسية نتيجة لعجز المعروض.
4- يحصل أنصار الله على شعبية هائلة في اليمن، نتيجة للغضب الشعبي المتوقع، ولدى أمريكا تجارب سابقة في أفغانستان وفيتنام والعراق، حيث كلما زاد معدل القصف كلما ارتفعت شعبية خصوم أمريكا بالداخل، وسيطروا أكثر على مراكز الحكم..
5- فتح الباب لمحاكمة قادة أمريكا كمجرمين حرب في محكمتي العدل الدولية والجنايات، أسوة بما حدث لإسرائيل، والطبع مصير نتنياهو وجالانت المطلوبين دوليا أصبح مصدر تهديد وفزع لأي قائد أمريكي يتخذ قرارا بالتدمير الشامل، خصوصا وأنه على الأرجح سوف يستغل ذلك خصوم السلطة الأمريكية من الجمهوريين أو الديموقراطيين في التشنيع على الإدارة ومحاسبتها.
سادسا : في الواقع العملي لا يشكل اليمن أي تهديد لأمريكا ومصالحها، لذلك فلا توجد أي مناقشات أو إشارة لتصعيد القصف على اليمن، وفي تقديري أن القصف الحالي يحدث بشكل روتيني لإرضاء اللوبي الصهيوني النافذ في أمريكا ليس إلا، يعني بنظام (عملنا اللي علينا) والباقي عليكم بقبول المفاوضات وتحرير الرهائن ووقف القصف على غزة.
سابعا وأخيرا: أشير أنه لولا شجاعة وصمود المقاتل اليمني وتصميمه ما حدث هذا الفارق الذي نراه، بتردد وضعف أمريكي عن اتخاذ القرار، فالأمريكيون مخيرون بين مصالحهم الخاصة أو مصالح إسرائيل، وهذا التردد هو الذي أفقدهم ميزان الردع طوال عام كامل من القصف على اليمن دون نتيجة، مما أدى لنقل المبادرة إلى اليمنيين وتحكمهم في سير المعارك، بل واختيار أهدافهم بدقة..