أمام الحوثيين ورقة بعنوان "خارطة السلام" تحاول فيها إدارة الرئيس بايدن منح الحوثيين شرعية سياسية على غرار ما مُنح لحركة طالبان في أفغانستان والجولاني في سوريا.
أي محاولة لتبسيط المشهد ستنتهي بعواقب وخيمة
يبدو أن على إسرائيل تواجه أصعب الأسئلة في ما كانت تعتقد أنه أسهلها، فاليمن ليس لبنان أو سوريا أو العراق أو إيران. هذه بلاد تعقيداتها ليست في تضاريسها الجبلية، بل في تراكمات التاريخ الزمني الممتد، والمشمول بتاريخ اليهود أنفسهم. الإشكالية في أن الحوثي لديه حاضنته الشعبية التي هي مستعدة لتحمّل أعباء الهجمات الإسرائيلية كما تحملت من قبل أعباء عملية “عاصفة الحزم” بكل ما فيها، كما تحملت أعباء الضربات الأميركية والبريطانية بعد أن انخرطت الجماعة الحوثية في إسناد حماس من بعد هجومها في 7 أكتوبر 2023 على جنوب إسرائيل.
على عكس كل الجبهات التي واجهتها إسرائيل، فإنها للمرة الأولى تواجه الذراع الإيرانية التي تمتلك حاضنة شعبية ترى أنه يجب عليها تحمل تبعات القرارات التي اتخذتها قيادة الجماعة، حتى عندما يفترض أنهم خصومها من جماعة الإخوان الذين يمثلهم سياسيا حزب التجمع اليمني للإصلاح. هذه واحدة من تعقيدات اليمن التي على بنيامين نتنياهو أن ينظر إليها باهتمام وهو يخوض معركة عليه أن يعلم بأن كل ضربة إسرائيلية فيها لا تستهدف رأسا حوثيا فإنها ستقابل بالمزيد من التعنُّت والتصلُّب الشعبي.
*- الشمال الغارق في الأيديولوجيات الإسلامية المتعصبة مع تمسكه بالمواريث القبلية يخشى من مواجهة جنوب أعاد بناء منظومته الوطنية وفقا لتطلعاته السياسية باستعادة دولته
وبما أن إسرائيل قرّرت المضيَّ في هجومها على الحوثيين دون أن تنتظر استلام الرئيس دونالد ترامب مقاليد السلطة في الولايات المتحدة، فإن عليها أن تتحمل نتائج الهجمات المنفردة. بمعنى أن هناك ورقة أميركية ما زالت أمام الحوثيين بعنوان “خارطة السلام”، وهي الورقة التي تحاول فيها إدارة الرئيس جو بايدن عبر مبعوثها الخاص تيم ليندركينغ منح الحوثيين شرعية سياسية على غرار ما مُنح لحركة طالبان في أفغانستان والجولاني في سوريا. هذه هي الورقة التي إن سُحِبَت من الحوثي سيهزم، أما غيرها فمن الخطأ الرهان عليه.
التحرك دون تنسيق كاف مع واشنطن وحلفائها الإقليميين قد يؤدي إلى نتائج عكسية. إسرائيل تراهن على قوتها العسكرية في مواجهة الحوثيين، متجاهلة أن هذا الصراع لن يُحسم عبر الضربات الجوية وحدها، بل يحتاج إلى فهم أعمق للبنية الاجتماعية اليمنية وتعقيداتها.
اليمن ليس مجرد ساحة صراع جيوسياسي لإسرائيل، بل هو جزء من تاريخ اليهود في المنطقة. الوجود اليهودي في اليمن، الذي يعود إلى آلاف السنين، يجعل العلاقة أكثر حساسية وتعقيدا. وبينما قد تبدو العمليات العسكرية اليوم كجزء من صراع أيديولوجي وسياسي، فإن هناك بعدا ثقافيا وتاريخيا يظل حاضرا في الخلفية. هذا البعد يزيد من حساسية الموقف ويعقّد الخيارات الإسرائيلية في التعاطي مع اليمن كجبهة جديدة للصراع.
كل خطوة تقوم بها إسرائيل في اليمن تحمل تبعات خطيرة، ليس فقط على المدى القصير بل على مستوى إعادة تشكيل المشهد الإقليمي. على إسرائيل أن تسأل نفسها كيف يمكنها التعامل مع حاضنة الحوثي الشعبية الصلبة، وهل بإمكانها تفكيك الدعم الإيراني للجماعة دون استفزاز الداخل اليمني ودون أن تصبح عامل تعبئة شعبي ضدها. يبدو أن إسرائيل قد دخلت ساحة جديدة تختلف عن الجبهات التقليدية التي اعتادت التعامل معها. اليمن ليس فقط أرضا معقدة من الناحية الجغرافية، بل هو فسيفساء من التعقيدات الاجتماعية والسياسية والتاريخية. وأي محاولة لتبسيط المشهد قد تنتهي بعواقب وخيمة، وتجعل من هذا الصراع واحدا من أصعب التحديات التي تواجهها إسرائيل في تاريخها الحديث.
إن التحديات التي تواجهها إسرائيل في اليمن متعددة، تبدأ من الحاضنة الشعبية للحوثيين. فهم، على عكس الجماعات الأخرى التي واجهتها إسرائيل، يتمتعون بدعم شعبي واسع، مستعد لتحمل تبعات أيّ صراع، حتى لو كان مع إسرائيل. هذا الدعم الشعبي يُعقّد أيّ محاولة إسرائيلية لتحقيق نصر عسكري حاسم، ويجعل من الصعب عزل الحوثيين سياسيا. يضاف إلى ذلك التضاريس الجغرافية الوعرة في اليمن، فالجبال والوديان والصحارى تُصعّب من عمليات الجيش الإسرائيلي، وتُتيح للحوثيين حرية الحركة والاختباء. ولا ننسى التحالفات الإقليمية القوية التي يتمتع بها الحوثيون، أبرزها مع إيران، حيث يوفر هذا الدعم الإقليمي الأسلحة والتدريب والموارد المالية، مما يعزز من قوتهم ويُصعّب من مهمة إسرائيل في مواجهتهم.
*- بما أن إسرائيل قرّرت المضيَّ في هجومها على الحوثيين دون أن تنتظر استلام الرئيس دونالد ترامب مقاليد السلطة في الولايات المتحدة، فإن عليها أن تتحمل نتائج الهجمات المنفردة
في خضم هذه التعقيدات، تُمثل “خارطة السلام” الأميركية ورقة رابحة في يد الحوثيين. فمنحهم شرعية سياسية على غرار طالبان والجولاني سيُعزز من موقفهم التفاوضي، ويُصعّب من أيّ محاولة إسرائيلية لعزلهم. وبينما تُفاضل إسرائيل بين التصعيد العسكري سعيا لتحقيق نصر سريع وحاسم، أو فرض حصار اقتصادي على اليمن في محاولة لإضعاف الحوثيين، يبقى الحل السياسي هو الخيار الأمثل لإنهاء الصراع. لكن هذا الحل يتطلب تنازلات من جميع الأطراف، ويحتاج إلى وساطة دولية فاعلة.
تُواجه إسرائيل تحدياتٍ كبيرة في اليمن، تختلف عن التحديات التي واجهتها في جبهات أخرى. فالحاضنة الشعبية للحوثيين، والتضاريس الجغرافية الوعرة، والتحالفات الإقليمية القوية، والتاريخ الطويل والمعقد، كلها عوامل تُصعّب من مهمة إسرائيل في اليمن. ويبقى الحل السياسي، الذي يتطلب تنازلات من جميع الأطراف ووساطة دولية فاعلة، هو الخيار الأمثل لإنهاء الصراع، المدخل الممكن مع إدارة ترامب التي عليها أن تتعامل مع اليمن ككتلتين جغرافيتين منفصلتين.
الشمال الغارق في الأيديولوجيات الإسلامية المتعصبة مع تمسكه بالمواريث القبلية يخشى من مواجهة جنوب أعاد بناء منظومته الوطنية وفقا لتطلعاته السياسية باستعادة دولته فيما قبل 1990، وهو ما كان متوقعا أن تتعامل معه إدارة ترامب بواقعية سياسية تفرض معها ضبط أمن واستقرار الملاحة التجارية الدولية عبر الممرات الملاحية، وهو أمر يتطلب قرارا سياسيا بفصل الجنوب عن اليمن ليتمكن المجتمع الدولي من نزع سلاح الحوثي ووقف تهديداته المباشرة لجارته السعودية. فهل استعجلت إسرائيل بالذهاب منفردة في هجومها على الحوثي؟ هذا ما سيتأكد منه نتنياهو، فاليد الطويلة وحدها لا تكفي دائما.
*- صحيفة العرب