الطلبنة تستلهم من تجربة طالبان وتقدم نموذجا يتكيف مع السياقات السنية والتحديات المحيطة بها، فهذا النموذج يعتمد على الجذور المحلية ويستفيد من الفراغات التي تتركها القوى الكبرى.
مشهدان غارقان في ذهنية جماعات الإسلام السياسي: مشهد نزول الخميني في مطار طهران عام 1979 قادما من منفاه في فرنسا، ومشهد دخول عناصر حركة طالبان القصر الجمهوري في كابول بعد انسحاب القوات الأميركية عام 2021. “الفتح” و”النصر الإلهي” لهما معانيهما الرمزية في العقلية ذات الاتجاه الإسلامي، ولعل مشهد دخول أبي محمد الجولاني الجامع الأموي في دمشق يعزز تماما هذه الفكرة العميقة. وإذا كانت المنطقة والعالم عاشا وتعايشا مع تصدير الثورة الإيرانية، فإنه يبدو أنهما عليهما أن يتعايشا مع النسخة الطالبانية التي بالتأكيد هي النسخة السنية من تلك الشيعية. والمشهدية الممتدة مع تجربة الإسلام الحركي في المئة عام الأخيرة يمكن استقراؤها والوصول إلى ملامحها وما ستذهب إليه قطعيا.
منحت الولايات المتحدة بقصد أو بغير ذلك التنظيمات الراديكالية المسلحة الإطار الذي يداعبها لشرعنة وجودها، حركة طالبان التي دخلت في مفاوضات مع الأميركيين عبر بوابة الدوحة شكلت نقطة تحوّل كبيرة تلقفتها كل التنظيمات، جماعة الإخوان التي تتفرع منها التنظيمات السلفيّة الجهاديّة وجدت ثغرة لطالما كانت مسدودة أمامها، ففكرة التفاوض مع قوة عظمى مثل الولايات المتحدة أصبحت بمثابة مؤشر للجماعات الأخرى على إمكانية تحقيق مكاسب سياسية ودبلوماسية من خلال اتباع هذا النموذج. هذا النهج الجديد لم يعد محصورا فقط في استخدام القوة العسكرية، بل أضيف إليه التفاوض كوسيلة لتعزيز الشرعية وكسب الاعتراف الدولي.
*- مستقبل الطلبنة يبقى مرهونا بقدرة العالم على مواجهة الأسباب التي دفعت إلى ظهورها، وعلى خلق بيئات سياسية واقتصادية قادرة على إجهاض محاولات الجماعات المتطرفة لاستغلال الفوضى وترسيخ وجودها
الطلبنة كمفهوم جديد تستلهم من تجربة طالبان وتقدم نموذجا يتكيف مع السياقات السنية والتحديات المحيطة بها. هذا النموذج يعتمد على الجذور المحلية ويستفيد من الفراغات التي تتركها القوى الكبرى في المناطق المتوترة. لم تعد الحركات الجهادية تهدف إلى خطاب أممي كما كان مع تنظيم القاعدة، بل تبنت إستراتيجيات محلية تسعى من خلالها إلى تحقيق أهدافها القريبة مع الاحتفاظ بالطموح الأكبر المتمثل في إقامة نظام إسلامي شامل. نجاح طالبان في أفغانستان أوجد حالة من الإلهام لدى جماعات أخرى في مناطق مثل الصومال ونيجيريا وسوريا، التي باتت ترى في هذا النموذج وسيلة قابلة للتطبيق.
تأثير الطلبنة لا يقتصر على الجانب الأيديولوجي، بل يمتد إلى الأدوات العملية التي يتم تصديرها للجماعات الأخرى. يمكن رصد ثلاث إستراتيجيات رئيسية استلهمتها الحركات الراديكالية من تجربة طالبان. الأولى هي استغلال ضعف القوى الدولية وغيابها عن بعض المناطق لصالح تعزيز النفوذ المحلي. الثانية هي استخدام التفاوض كتكتيك مرحلي يمكن من خلاله تحقيق مكاسب إستراتيجية على الأرض. الثالثة هي الاستفادة من الإعلام الحديث لترويج الأفكار والتأثير في الجماهير، وهو ما برعت فيه طالبان خلال سنوات صراعها الطويلة.
في العالم العربي، أصداء الطلبنة أصبحت واضحة في خطاب الحركات السلفية الجهادية وحتى التيارات الأكثر اعتدالا. الخطاب الذي يركّز على الصمود واستعادة السلطة بدأ يأخذ مكانه في الأدبيات السياسية لهذه الجماعات، حيث يتم تقديم تجربة طالبان كنموذج يحتذى به. المشهدية التي أفرزتها هذه الظاهرة أعادت الاعتبار لفكرة النصر المحلي كجزء من مشروع أوسع، وهي الفكرة التي باتت تشكل دافعا للكثير من التنظيمات في مناطق الصراع.
يحيى السنوار في غزة يعد من التيار التقليدي الذي يمكن تصنيفه أنه انتهى مع مقتله، أسامة بن لادن والبغدادي يمثلان قادة هذا التيار الذي يرى بالدولة الأممية بعكس أنموذج حركة طالبان التي تؤطر نفسها في داخل محيطها الوطني كما يحاول أن يصنع ذلك الجولاني في سوريا، هذا النمط المختلف الذي من الواضح أن التنظيمات الراديكالية قد تنبهت له حدث دون ضجيج في هيكلة الشرعية اليمنية، فحزب الإصلاح أطّر نفسه ضمن المجلس الرئاسي ووفرّ لميليشياته العسكرية شرعيّة سياسية، استطاع الإخوان في اليمن توفير ما هو أبعد من حماية مكتسباتهم من الربيع العربي بتأهيل جيوش في تعز ومأرب ووادي حضرموت محميّة بقرار سياسي ضمن مجلس القيادة الرئاسي.
*- الحركات الجهادية لم تعد تهدف إلى خطاب أممي كما كان مع تنظيم القاعدة، بل تبنت إستراتيجيات محلية تسعى من خلالها إلى تحقيق أهدافها القريبة مع الاحتفاظ بالطموح الأكبر
من خلال قراءة المشهد العام لتصدير الطلبنة، يبدو أن هذه الظاهرة أصبحت جزءا من ديناميكيات الإسلام السياسي في العالم الحديث. النجاح الذي حققته طالبان في استعادة السلطة أوجد حافزا قويا للتنظيمات الراديكالية والجماعات الإسلامية لتبني إستراتيجيات مشابهة، لكن التحدي الأكبر يكمن في السياقات المختلفة التي تجعل استنساخ هذا النموذج أمرا معقدا. الطلبنة ليست مجرد فكرة قابلة للتصدير، بل هي ظاهرة متجذرة في تاريخ محلي وسياق دولي وفراغات سياسية وأمنية استثنائية.
التجربة الطالبانية تُظهر أن التركيز على القضايا الوطنية والتحول من الخطاب الأممي إلى المحلي يمكن أن يكون مفتاحا لتحقيق مكاسب، لكن ذلك لا يعني أن الطريق سيكون ممهدا أمام الجماعات الأخرى. ما يميز طالبان هو قدرتها على التكيف مع التحولات الدولية واللعب على التناقضات بين القوى الكبرى، وهي مهارة قد لا تكون متاحة للجميع.
في الوقت ذاته، يبرز دور الأنظمة السياسية الإقليمية والدولية في التصدي لهذه الموجة، ليس فقط من خلال الأدوات العسكرية أو السياسية، بل عبر تقديم نماذج تنموية تعالج جذور الأزمات التي تستغلها الجماعات المتطرفة. الطلبنة ليست تحديا أمنيا فقط، بل هي أزمة فكرية وسياسية تعكس غياب العدالة والتنمية في مناطق عديدة.
يبقى مستقبل الطلبنة مرهونا بقدرة العالم على مواجهة الأسباب التي دفعت إلى ظهورها، وعلى خلق بيئات سياسية واقتصادية قادرة على إجهاض محاولات الجماعات المتطرفة لاستغلال الفوضى وترسيخ وجودها، وهذا يعيدنا إلى أن تجديد الخطاب الديني أصبح أولوية لحماية الأوطان العربية، فلم تعد قضية تصدير الثورة الخمينيّة مهددة بل الطلبنة هي الخطر الذي يعيش بيننا.
*-عن صحيفة العرب