في كتاب المقدمة، لماذا يصف ابن خلدون العرب بشكل قاسي ومهين رغم أنه هو نفسه عربي؟
تمت الإجابة في الأصل: في كتاب المقدمة، لماذا يصف ابن خلدون العرب بشكل قاسي و مهين رغم ان هو نفسه عربي؟
«المغلوب مولَع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزِيّه ونِحْلته وسائر أحواله وعوائده» أشهر مقولة للعلّامة عبد الرحمن بن خلدون والذي يُعدّ من أهم العقول التي أنجبتها الحضارة العربيّة والإسلاميّة، يُنسب له تأسيس علم الاجتماع وما تفرّع منه كالاقتصاد والسياسة، يُعتبَر أهم فيلسوف ومؤرّخ وقارئ تاريخي في القرن الرابع عشر، تفرّد بقراءة التاريخ وصياغة نظرية تُفسّر مساره وتتوقّع مصير الدول واصفًا المدن والفنون والطبائع البشرية، مستلهمًا ذلك من مسار حياته الخاصّة؛ وما تزال نظرياته تُدرّس في زماننا ويُحلّل بها واقعنا، فعبارته التي استهلّيتُ بها إجابتي هي نواة علم العولمة اليوم؛ جعل ابن خلدون العرب حبيسين في سجنين؛ الأول سجن العِرق والجنس، الذي لا أمل فيه، ولا بارقة أمل معه، والثاني سجن المذاهب والنِّحَل، الذي جعلهم أممًا مختلفة الآراء، وشعوبًا متباعدة الظنون، ابتداءً بالإسلام والمسيحية مرورًا بالطوائف السنية والشيعيّة وانتهاءً بالمذاهب المالكيّة والشافعيّة. لمَ كانت هذه نظرته للعرب؟
وُلِد ابن خلدون بتونس عام 1332، لعائلة نازحة من الأندلس ترامنًا مع سقوط مدن الأندلس، وتحديدًا بعد مذبحة إشبيليّة على أيدي ممالك الشمال الأيبيرية، عاش ابن خلدون في عصر كانت فيه شمس الحضارة الإسلاميّة آخذةً في الأُفول، حيث أصبح التقهقر حقيقةً مع توالي كوارث عديدةً على العالم الإسلامية أشهرها هجمات التتّار، وانحسار حكم المسلمين في الأندلس، والحروب بين الحُكّام، والفتن بين الولاة والأمراء، وأخيرًا انتشار الطاعون الجارف.
قضى ابن خلدون عمرًا في دهاليز السياسة، من خلال بقائه في قصور الملوك والأمراء والولاة، تنقّل كثيرًا في العالم الإسلامي ابتداءً بتونس وفاس بالمغرب ومدن الجزائر الكبرى مثل قسنطينة وتلمسان مع إمارات الأندلس ثم إلى القاهرة بمصر.
مكّنته حياته من الاحتكاك الكامل بالطبقة الحاكمة، والذين كان أغلبهم عربًا في زمانه، ولم يرَ فيهم مؤهلًا للحكم، كان العالم الإسلامي في ذلك الوقت بحالة تدهور، فبعد أقل من مئة عام من وفاته سينقسم العالم الإسلامي لدُويلات متناحرة وينتهي عصر العلوم الذهبي للإسلام وستنتشر الأميّة وتسقط الأندلس.
مُنذ القضاء على الأمويين في الشرق وصعود العباسيين، سعى العباسيون لتحييد العرب خوفًا من أن يفعلوا معهم المِثْل وينفوهم، وفي نفس الوقت فرّ الأمويين للأندلس والتي كانت ساحة صراع بين العرب القيسيّة والعرب اليمانيّة، قضى عبد الرحمن الداخل الأموي على سلطة الاثنين؛ بادر العباسيون في خلافتهم والأمويون في الأندلس، بتكوين سلطة يترأسها خليفة وأمراء عرب من نسلهم، ولكنها تتكوّن من غير العرب خوفًا من انقلاب العرب عليهم، فتوجّه العباسيون للأتراك والأمويون للأمازيغ، جعل هذا سلطة الحكام العرب ضعيفةً وقاد الأمراء لحالة من الترف فهم ليس بيدهم الحُكم والسلطة بل بيد الوزراء والجيش، ومعهم فقط الأموال، وقد قُتِل في البداية اثني عشرة خليفةً عباسيًّا لعدم إجماع الجيش التركي عليهم أو لمخالفته أمرًا منهم، وقد كان يُقال «خَلِيفَةٌ فِي قَفَص بَيْن وَصِيفٍ وَبُغَا يَقُولُ مَا قَالَا لَهُ كَمَا تَقُول الْبَبَّغَا»، إن انتقال السلطة بعد توفي الأمير، في مثل هذه الدول يُقسّمها بين أبنائه، ويطمع كل أمير جديد منهم لإرجاع إرث والده ضد إمارات إخوته الصغيرة فتبدأ المعارك بينهم، أما في حال جاء هجوم خارجي، تسقط الإمارة سريعًا نظرًا لصغر مساحتها وعدم وجود الهرم السلطوي الطبيعي ليُنظّم الجيش.
استساق ابن خلدون أفكاره من حياته، وأظن بأن اتصاله بالأمراء ورؤيتهم على هذا التخبّط:
* منغمسون في الترف
* يتقاتلون ويجمعون الأنصار بين بعضهم باسم العِرق أو الدين
* يتخاذلون عند أول غزو من الخارج
جعله يُكوّن فكرته هذه، والتي كانت صحيحةً آنذاك، ونتيجةً لتسلسل أحداث طبيعيّة من استئصال العرب لبعضهم البعض من السلطة، وهو نفس السبب لكون الممالك الإسلاميّة المتأخّرة جُلّها غير عربيّة كالفرس والدولة الصفوية في إيران وآسيا الوسطى، والتيموريون بالهند والأتراك والدولة العثمانية في الشرق الأوسط وأوروبا.