على مائدة الرحمن
لا أريد الاسترسال في نقد منهج المتسرعين في مجال الإعجاز القرآني، وهو إعجاز عظيم كلَّ العَظَمَة، غير أنه يؤخذ على البعض لَيُّهم - بحسن نِيَّة وسلامة طَوِيَّة - أعناقَ الكَلِم، واعتسافُهم لمعاني الآيات متسولين ومستجدين إياها إعجازًا ما، والقرآن غنيٌّ عن ذلك؛ لوضوح إعجازه في آيات كثيرة جدًّا.
ومن ذلك زعمُهم أن معدن الحديد ليس من كوكب الأرض، وإنما "نزل" على الأرض من الفضاء، ودليلهم في ذلك - على حد زعمهم - هو قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاس) الحديد 25. والحقُّ أنه مَن يتتبعْ ورود كلمة "أنزل" بتصريفاتها في القرآن المجيد، يلاحِظْ أنه يُوصَف بها ما أنعم الله به على عباده، والإنزال مقتضاه أن المُعْطِي أعلى منزلةً من المُعْطَى.
وفي قوله تعالى عن الرِّشوة: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون) البقرة 188، مَلْمَحٌ إلى أن اليدَ الواهِبَة أعلى من الموهوبة، وأن المرتشي - مهما كان ذا منصب رفيع - هو خسيس القدر ومنحطٌّ وساقط، وهو في المنزلة السفلى، ومن أجل ذلك جِيْءَ بفعل الإدلاء، وهو لا يكون إلا من عالٍ إلى سافل.
ولننظر الآن إلى أمثلة عن استعمال القرآن للإنزال على أنه تفضُّلٌ من الله ومَنٌّ منه:
- (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا) الأعراف 26، فلا أحد يقول إن اللباس ومشتقاته هي أشياء أنزلت من السماء.
- (وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى) الأعراف 160، فالمَنُّ الذي هو سائل يشبه العسل، موجود في الطبيعة، وكذلك السلوى الذي هو طائر السُّمَّان، وإنما ساق اللهُ لهم ذلك الرزق ولم ينزله من السماء.
- (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْض) المؤمنون 18، والماء دائم الوجود في الغلاف الجوي ولم يأتِ من الفضاء. والأوضح في هذا المضمار هو قوله تعالى: (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاج) الزمر 6، فالأنعام لم تنزل من الفضاء.
وأختم بالتأكيد على أن الإنزال في حق الكتب السماوية والملائكة، لا علاقة له بما ذكرناه هنا، فتلك أمور غيبية نؤمن بها لأن الله ذكرها في كتابه، والقرآن قد يستعمل المفردة الواحدة بأكثر من معنًى، والفيصل دائمًا هو السياق كما لا نفتأ نقول.