"من كتابي (وجحدوا بها)"
لطالما تساءلتُ بيني وبين نفسي في سِنِي المراهقة والشباب قائلًا: إن عدد سكان الأرض سبعة مليارات إنسان، منهم فقط مليار ونصف مسلم (هذه إحصائيات أيام الشباب)، أي إنه لو انتهت الحياة الآن؛ لذهب ثلاثة أرباع سكان الأرض إلى الجحيم. أيُعقَلُ أن يصدر هذا عن الرحمن الرحيم، وأن يعذب هذا العدد الضخم من البشر؟!
والحقيقة أن هذه الفكرة جعلتني أشعر بالحزن والأسى على شخصيات تاريخية ومعاصرة، قدمت للبشرية خدماتٍ جُلَّى، وأسهمت في سعادة الإنسان مساهمةً عُظمَى، ولكنهم لم يختاروا الإسلام دينًا؛ فكان عاقبةُ أمرِهم خُسرًا.
وبعد أن نلت قدرًا لا بأس به من المعرفة عن طريق القراءات الجادة إضافةً إلى تدبُّر الكتاب العزيز، وبعد أن اكتهلتُ وجاوزت مرحلة المراهقة والشباب، وبعد أن نضجتُ – بعضَ الشيء – نضجًا فكريًّا؛ فقد أتاح لي ذلك فهمَ كمالات أسماء الله وصفاته، وجوهر الإسلام، وسماحة الشريعة، وعظمة النبيّ الخاتم، وهو ما أسفر عن تغيُّر تلك النظرة، واضمحلال ذلك الحزن والأسى وانقشاعهما عن نفسي إلى الأبد.
إنه من المسقِرّ الذي يجب أن يعيَه كلُّ أحد، هو أن الله تعالى كامل العدل، وأنه لا يمكن أن يعذب إنسانًا إلا بسبب، وأنه رؤوف بعباده رحيم بهم، ومن أجل ذلك أرسل لهم الرسل تترا، وأنزل الكتب السماوية متتابعة، كل ذلك من أجل أن يهتدي الناس إلى صراط الله المستقيم؛ فيعرفوا ربهم ويؤدوا حقه عليهم، ويَنعموا في ظل شرائعه بالحياة الطيّبة مَعاشًا ومآلًا.
ومن اختار الحق فلنفسه، ومن اختار الباطل فعليها؛ فالحجة قد قامت ولا مَحِيصَ لأحد، قال الحق سبحانه: (وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا * رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) النساء 164.
ولكنّ هناك عددًا كبيرًا من الناس على مرّ العصور لم تبلغهم رسالات السماء؛ إما لانعزالهم في أماكنَ قَصِيَّةٍ عن العالم المسكون، أو لوجودهم في فترةٍ من الرسل، وهي المدة الزمنية الفاصلة بين شريعتين.
وعليه، وباستحضار عظمة الخالق وحكمته وعدله ورأفته ورحمته وبقية أسمائه الحُسنى وصِفاتِه العُلا، وبعد تَدَبُّرِ كتاب الله المجيد الذي هو القول الفصل والحجة البالغة، وهو وحده النصُّ الموصوف بالثبوت القطعيِّ متفرِّدًا بهذه الصفة عن أي نص عبر تاريخ البشرية جمعاء، فكلُّ ما تناقله الناس من أقوال بالمشافهة أو بالكتابة، يمكن إخضاعها للشك ووضعها تحت مِبضَعِ النقد، ثم الأخذ بها أو رَدُّها، إلا هذا الكتاب الذي هو معجزة الإسلام الخالدة.
بعد ذلك كله يمكن القول - بكل اطمئنان - إن مَن لم تبلغه رسالة النبي الأكرم، ولم يبلغه النبأ العظيم، وعاش حياته خَيِّرًا، كافيًا الناس شرَّه، ومُحِسنًا إلى غيره؛ فمصيره يوم القيامة كلّ خير، ويستحيل أن يعذبه الله دون ذنبِ جناه، أو جريرةٍ اكتسبتها يداه.
ولذلك فنحن نردّ أي قول يزعم أن والدَي الرسول الأعظم في النار، بأي ذنب يدخلون النار وقد قال الحق: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)؟! الإسراء 15.
وأما من كانت حاله كحال هذا الإنسان من حيث عدم علمه بالإسلام، إلا أنه أمضى حياته في فسادٍ وإفساد، وقتل وسلب ونهب، وترويع للآمنين، وأكلٍ لحقوق الآخرين، وظلم وطغيان وتكبُّر وتجبُّر، ثم نَفَقَ وزهقت نفسه؛ فلا شكّ أن من كمال عدل الله أن يحاسبه على ما اقترف من سوء، وأن يقتصّ لضحاياه منه في يومٍ مجموع له الناس وهو يوم مشهود، يتحقق فيه العدل في أبهى صوره وأكمل هيآته، مصداقًا لقول الحقّ: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِين) الأنبياء 47.
ويلحق بهذه الفئة أيضًا مَن بلغه الإسلام إلا أنه نُقِلَ إليه مشوَّهًا ناقصًا مُفترًى عليه: إلهًا، ونبيًّا، وكتابًا، وتاريخًا، وحاضرًا، وأَتباعًا؛ إما عبر وسائل الإعلام المعادية للإسلام، أو عبر مؤلّفات من يحاربون الإسلام بضراوة وخبثٍ وكذبٍ وتلفيق، أو حتى عبر الحوار مع من أخذوا على عواتقهم الهزيلة مهمة إطفاء نور الله بأفواههم، أو عبر القدوة الخبيثة المتمثلة في الفئات المارقة ممَّن يدّعون الإسلام ويمارسون باسمه أفظع جرائم عرفتها الإنسانية، أو عبر تصرفات أفراد من المسلمين غير الملتزمين بدينهم. فهؤلاء لا يقتضي عدلُ الله معاملتَهم معاملةَ الكفار؛ إذ إن رفضهم للإسلام كان مبرَّرًا ومسوَّغًا ولهم فيه كل العذر.
كما يدخل ضمن هذه الفئة التي ستُحاسَبُ على عملها ولن تُحاسَبَ على عدم دخولها في الإسلام، أولئك البشر البسطاء من زُهَّاد التبت – كمثال - الذين عكفوا على صنمهم "بوذا" وعاشوا وماتوا دون أن يعلموا عن الإسلام شيئًا، ومعهم أيضًا أولئك الهائمون في غابات الأمازون شِبهَ عُرَاةٍ لا هَمَّ لهم إلا الصيد والتكاثر، ولا تعني لهم الحياة خارج أحراشهم أي شيء.
وكذلك عجائز الهندوس والسيخ في القرى النائية في أعماق الهند، أولئك اللائي لا يستطعن حيلةً ولا يهتدين سبيلًا. وتلك كانت مجردَ أمثلةٍ المَغزَى منها واضح، وهو أن عدم قيام الحجة على أحد، يجعل من المستحيل إلزامَه بتلك الحجة ومحاسبتَه عليها، واللهُ ليس عادلًا فحسب؛ بل هو العدل ذاته.
بقيت فئةٌ أخيرة، وهم أولئك الذين بلغهم الإسلام كما هو، وقرؤوا القرآن، ولكنهم لم يجدوا في أنفسهم قبولًا له، ليس تكذيبًا وجحودًا، ولكنهم لم يجدوا الأدلة الدامغة على إلهية الإسلام، وصدق الرسول، وسماوية القرآن؛ لم يجدوها كافية لإقناعهم أنه الدين الحق، والسبب عائد إلى قصور أفهامهم ونقص إدراكهم لما يُدرَك بالبديهة. فهؤلاء – في رأيي – يلحقون بالفئة مَدَار الحديث، والعلم عند الله.
أما من بلغه الإسلام الصحيح، وقرأ القرآن أو سمعه، ووقر في قلبه وفي دخيلة نفسه أنه الحقّ الأبلج الذي لا يتلجلج، ثم كفر به (ومن معاني الكفر التغطية وهو قد غطَّى إيمانه)، وجَحَدَهُ: حقدًا على الإسلام وأهله، أو خوفًا من نبذ أهله وزوجته وأولاده ومجتمعه له، أو خوفًا من خسارة منصب أو جاه أو مال، أو طمعًا في مكافأة ينالها بذلك الجحود، أو حَمِيَّةً وعنصرية، أو لأي سبب يمنعه من الدخول في الإسلام بعد أنْ عَقَلَهُ ووعاه، وتأكّد له أنه الصدق الذي لا يخالجه شكّ، والشمس التي لا يجادل في طلوعها أحد؛ فهذا يُحكَمُ عليه - دون تردد وبأدلة من القرآن - بأنه من الخاسرين يوم القيامة خسرانًا مبينًا.
ونختم بذكر ثلاثة أمثلة مختصرة على من ذكرتُهم آخِرًا من الجاحدين، ولكن قبل ذلك نتلو معًا آيات كريمات نبدؤها بقول الحق: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِين) النمل 14، وقوله تعالى مُطَيِّبًا خاطر نبيه الكريم: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُون) الأنعام 33.
وأما الأمثلة فهي كما يلي:
المثال الأول: ما قاله هِرَقلُ عظيمُ الروم لأبي سفيان، عندما كان الأخير في الشام فاستدعاه هرقل وسأله عن صفات محمد وأخلاقه ودينه الذي يدعو إليه، وذلك بعد أن وصله كتاب النبي الذي يدعوه فيه للإسلام. فلما أجابه أبو سفيان بكل صدق رغم أنه كان مشركًا؛ لأن العربيَّ يأنَفُ من الكذب ويستحيي أن يُعهَد عنه، وكذلك الكرام من غير العرب، قال هرقل: "إن كان ما تقول حقًّا، فسيملك موضع قَدَمَيَّ هاتين، وقد كنتُ أعلم أنه خارج، ولم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أنني أخلُصُ إليه لتجشّمتُ لقاءه، ولو كنتُ عنده لغسلتُ عن قدميه". فقد صَدَّقَ هرقلُ بأن محمدًا نبيّ؛ ولكنه خشي قومَه، وآثَرَ أن يظلَّ في موضعه وما هو فيه من المُلك.
المثال الثاني: ما أَسَرَّهُ أبو جهلٍ إلى أحد جلسائه بقوله: "تَنازَعنا وبنو عبد مَنافٍ الشرف؛ أطعموا فأطعمنا، وحَمَلُوا فحَمَلنا، وأَعطَوا فأَعطَينا، حتى إذا كُنّا كَفَرَسَي رِهانٍ قالوا مِنَّا نبيّ يأتيه الوحي من السماء، فمتى نُدرِك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدًا ولا نصدّقه".
المثال الثالث: ما قاله أحد أتباع مسيلمة الكذاب لمسيلمة: "أشهد أنك كاذب، وأن محمدًا صادق؛ ولكن كاذب ربيعة أحبُّ إِلَيَّ من صادق مُضَر"، فقد عرف الحق وجحده؛ حَمِيَّةً وعصبيةً وعنصريةً مَقِيتَة.