قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُون) 159 البقرة.
ومع الأسف، فلم يفلح المفسرون القدامى - الذين إنما يأخذ بعضهم عن بعض - في إدراك أن هذه الآية لا علاقة لها باليهود كما قالوا؛ إذ لا السياق ولا المعنى - للمتدبِّر - يؤيدان ذلك.
وكون اليهود قد أخفَوا ما لديهم من نبوءة التوراة بسيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، وهو ما نجده في قوله تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيل) الأعراف 157.
أقول: كونهم قد أخفَوا ذلك، فهو لم يَضُرَّ الإسلامَ في شيء، إذ إنه قد كشف ما فعلوه وأبانَه وأوضحَه، كما أن هناك نفرًا منهم قد أسلموا وبيَّنُوا، ولذلك فإن الصواب هو أن المَعْنِيَّ بالكتاب في الآية المُصَدَّرِ بها هذا المنشور، هو القرآن العظيم.
ولكن قد يتساءل أحد ويقول: ومَن قال إن القرآن قد كُتِم؟ ومَن الذي قام بكَتْمِه؟ والحقُّ أن المكتوم ليس القرآن كلَّه، وإنما آياتٌ انتقاها مَن لهم مآرب أخرى.
غيرَ أنَّ هذا المتسائل سيعيد الكَرَّةَ ويتساءل: وكيف يكون الكَتْمُ والقرآنُ جميعُه في صدور الناس قبل أن يكون في سطور المصاحف، لا سيما وأن في الآية عبارة: (مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاس)، فهو بَيِّنٌ والبيِّنُ لا يمكن كتمُه؟!! وقد قام هذا المتسائل بطرح سؤال خَفِيّ دون أن يشعر، ألا وهو: هل في الآية تناقُض؟! إذ كيف يكُتَمُ ما قد تم تبيينُه؟!
والحق أن الكتم يكون على وجهين: الأول هو عدم إعمال الآية أو الآيات حيث يجب إعمالُها، كمَن يأبى أن يُعمِلَ قولَه تعالى في تحريم الرِّشوَة: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون) البقرة 188، مُدَّعِيًا - وهو يعلم - أنه لا صِلَةَ لها بتحريم الرِّشوَة.
والثاني هو ما يقوم به بعض المسلمين - لا سيما مَن يدَّعون العلم - باجتزاء آيات من سياقاتها أو أجزاء من آيات، ثم إسقاطِها إسقاطًا غير صحيح على ما يخدم أغراضهم.
وذلك كمَن يستشهد بقوله تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) مُدَّعِيًا أن هذا نَصٌّ بوجوب طاعة النبي، بينما الأمر لا صلة له بذلك، فالعربيُّ لا يستعمل الفعل "آتَى" بمعنى "أَمَرَ".
ويتضح المعنى - بِجَلاءٍ يتعامَى عن الكثيرون لحاجةٍ في أنفسهم - بقراءة كامل الآية، وهي بتمامها:
(مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب) الحشر 7.
أي: ما آتاكم من الفَيء وما نهاكم عن أخذه من الفيء، وهو ما أُخِذَ من العدو دون قتال، وهذا لا حق فيه لمَن رافَقَ النبيَّ مَسِيْرِه؛ لأنه لم يقاتل. قال سبحانه في ذات السياق: (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير) الحشر 6.
وكذلك استشهادهم بقوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُون) النحل 43 و الأنبياء 7؛ ليُوهِمُوا الناس أن هناك كهنوتًا في الإسلام، وأن العلم حَكْرٌ وحَصْرٌ على أناس بأعيانهم، حازوا علومًا بأعيانها، من كتب بأعيانها.
بينما يتضح لمَن تأمل كامل السياق في سورة النحل، أن هذا الفهم بعيد كلَّ البعد عمَّا أرادو تمريره، وقد نجحوا في ذلك، حتى لا تجد من يخرج عن "إجماعهم" هذا، وكأن تقديس القائلين قد حالَ دون قيام أحد - حتى من المثقفين - باختلاس ساعة أو أقل من وقته ليَسْتَكْنِهَ السياقَ بعد أن يخلع نظارة التقديس الأعمى.
وسأتناول في ما يلي كامل السياق المتمثل في ما قبل الآية وما بعدها من سورة النحل، وهو ما يشمل آية سورة الأنبياء المطابقة للفظ آية النحل والمختلفة سياقًا غيرَ ذي صلة.
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون) المحل 43 - 44.
إذ يقتضي السياق أن من مهمات الرسول أن يتلو القرآن على أهل الكتاب؛ ليبين لهم أنهم على ضلاله، وأن الله ليس كما يصفه اليهود، وأن عيسى إنما هو عبدالله ورسوله.
والمعنى: يا كفار العرب، إن كنتم تكذّبون برسالة محمد لأنه بشر، فقد بعثنا قبله بشرًا بالبينات والزبر "الكتب"، ثم التفت الخطاب للرسول قائلًا: وأنزلنا إليك القرآن لتبين لأولئك الناس الذين بعثنا إليهم قبلك رسلًا، ما حرَّفوه من دينهم الحق. ولو كان المعنى: "وأنزلنا إليك القرآن لتبين للناس القرآن"؛ لكان ذلك منتهى الركاكة وضعف اللغة، وهو أمر يتنزَّه عن القرآن تنزُّهًا عظيمًا.
وأختم بالإشارة إلى أن كلمة "الناس" في القرآن قد تعني جميع الناس وقد تعني فئةً من الناس، وهذا في القرآن كثير، ومنه قوله تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل) آل عمران 173.