إن الحديث عن الممكنات يظل افتراضياً، طالما بقيت ثقافة الاستحواذ والسطو وعقليات الثأر السياسي وتسخير الغلبة السياسية لتحقيق مكاسب مادية (وحتى معنوية) غير مُحتَرَمَة، هي العنوان المهيمن على المشهد السياسي اليمني وتعقيداته، لأن هذا النوع من الثقافة وذاك الشكل من العقلية، لا يمكن أن يؤسس لممكنات قابلة للتعاطي معها كادوات نهوض وروافع نمو وازدهار للوطن كل الوطن، وبالتالي يصبح الحديث عن الممكنات كالحديث عن المستحيلات وفي أحسن الأحوال كالحديث عن التمنيات ، وبمعنى آخر إن الممكنات لن تغدو قابلة للتعاطي والتَحَقُّق إلا بالاعتراف بالمستحيلات ومنها ما تعرضنا له في الجزء السابق من هذه الرسالة والعزوف عن التشبث بها ، وبالتالي يمكن التأسيس على ذلك لمنهج جديد في التفكير السياسي يكف عن التطلع إلى المستحيلات والتمسك بها كمقدسات غير قابلة للنقاش، وَتَبَنِّي عقلية سياسية جديدة تستوعب الحقائق والمعطيات ولا تبني نهجها على التمنيات، أو مخططات المصالح المادية والمعنوية والسياسية غير المشروعة للحزب أو الفئة أو التكتل أو القبيلة أو الجهة.
وهكذا فإن الممكنات التي نتحدث عنها على ندرتها يمكن الوصول إليها لكن بعد التخلي عن سياسات التمترس والابتزاز، والكف عن تبني المواقف المزدوجة والمتناقضة في كثير من الحالات، وما نقصده هنا هو:
1. اقتناع جميع الأطراف بأن الحرب ليست سوى وسيلةٍ عبثية تبدد الطاقات وتمزق العلاقات البشرية والمجتمعية، وبالتالي وقف الحرب من خلال استبدالها بالتفاوض والحوار، وتسخير تكاليف الحرب ونفقاتها الهائلة لصالح التنمية وإعادة الإعمار وبناء مصالح وطنية تخدم السواد الأعظم من السكان، وتعيد بناء العلاقات الإنسانية على أسس جديدة تقوم على الحرص على المصالح المشتركة بدلاً من التنازع والاقتتال على المصالح الفئوية والجهوية والحزبية الضيقة في جميع الأحوال.2. الاستفادة من تجارب الحرب الأخيرة والتي اقتربت من عقد كامل، لم ينجح طرفٌ من أطرافها في تقديم نفسه على أنه ممثل صادقٌ لهموم وتطلعات الشعب وبالتالي تبني سياسة جديدة تخدم إعادة النهوض المجتمعي وبناء وعي مدني يؤمن بالتقدم والتنمية ومجتمع ينهض بالعلم والمعرفة وليس بالقتل والاستيلاء على المساحات وتحشيد الناس للحروب اللانهائية.
3. اقتناع الأطراف المتحاربة أن أحداً من المتحاربين لن يسيطر على صنعاء ناهيك عن كل البلد، إلى الأبد ، ولم ينتصر ولن ينتصر بقوة الحرب والإكراه، وأن الشعب لن يطول صبره على مكائد السياسيين وجرائم المعتدين والمتسلطين وكما قال فيلسوف اليمن وشاعرها العظيم:
للشعب يومٌ تستثير جراحُهُ فيهِ ويقذفُ بالرقودِ المرقدُ
4. إعادة مراجعة مواقف القوى السياسية الشمالية تجاه العلاقة مع الجنوب، والاقتناع بأن تجربة الوحدة فشلت بالتوافق وفشلت بالحرب وفشلت بالغزو وستفشل بكافة أشكال المسكنات والألعاب السحرية والخدع البصرية التي يمارسها سياسيو الشمال على الشعب في الجنوب، ومن ثم الإقرار بحق الشعب الجنوبي في اختيار طريقه المستقل وبناء دولته على النحو الذي يجعل من الجنوب عنصراً فاعلاً ومتفاعلاً مع محيطه الإقليمي والدلي، بما في ذلك مع الشعب الشمالي الشقيق، كطرفين شقيقين شريكين في أكثر من مجال من مجالات الممارسة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية.
5. ومن هذا المنطلق الإقرار بإن عودة اليمن إلى وضع الدولتين المتجاورتين المتعايشتين والمتعاونتين كما كان الوضع عليه قبل 22 مايو العام 1990م هو مصلحة مشتركة للشمال والجنوب على السواء وهو في كل الأحوال أفضل وأقل كلفةً من نزاعٍ أبديٍ لا يقيم وحدة بالإكراه، ولا يوفر سلاماً واستقراراً للشعبين ولا لدول الجوار.
ومجدداً لا بد من التأكيد أن هذه المتطلبات تستدعي تفكيراً سياسياً جديداً يقوم على استلهام الدروس واستدعاء العبر والاستفادة من تجارب الماضي على صعيد العلاقة بين الدولتين وعلى صعيد العالم حيث برهنت كل التجارب التاريخية أن التعايش والسلام والتعاون بين البلدان والشعوب هو الرافعة الإساسية للاستقرار والتنمية والنهوض العلمي والتكنيكي والاقتصادي والمعيشي الذي تأخر فيه الشعبان اليمنيان عقوداً طويلة من الزمن سبقتهما فيه دولٌ وشعوبٌ كانت أكثر منهما تخلفاً قبل أقل من ثلاثة عقود، لكنها استطاعت بالانفتاح والقضاء على الفساد وتطبيق القانون وفتح أبواب الاستثمار واحترام كرامة الإنسان وحريته واستقراره المعيشي، أن تقطع أشواطاً كبيرة في زمنٍ قياسي بفضل سياساتها الحكيمة وساستها الصادقين مع شعوبهم.
ولله الهادي إلى سواء السبيل