القوى الدولية لن تستطيع وإن تعاملت عسكريّا مع جماعة الحوثي إخضاعها للاندماج في المجتمع الدولي، وخطة إنشاء تحالف عسكري واسع يؤمّن الملاحة البحرية ستعيد إنتاج القراصنة الصوماليين في اليمن.
عقلية تجيد المتاجرة بالحروب
منذ أن استعرضت جماعة الحوثي بقواتها العسكرية في ميدان السبعين وسط العاصمة صنعاء، بعد يوم واحد من عودة وفدها المفاوض من الرياض، وضعت نفسها في أعلى موقف يمكن أن تبلغه منذ ظهورها. الفكرة لا تتطلب استنتاجاً صعباً بمقدار الاستنتاج الموضوعي لمآلات ما بلغته الجماعة من قوة عسكرية تراكمت عبر سنوات تبدو قصيرة، غير أنها سنوات حافلة بالأخطاء التي وظفتها في مصلحة مشروعها الوجودي. مدى ما يجب استيعابه أن لهذه الجماعة فهمًا مختلفا عن حتى ما تريده إيران لها، فالطموح الحوثي له أبعاد طائفية وقبلية، ينظر إلى شبه جنوب الجزيرة العربية كجغرافيا سياسية واحدة بما فيها الأراضي الجنوبية ذات العقيدة الطائفية الشافعية.
استفادت الجماعة الحوثية من التقييمات الخاطئة فيما يتعلق بأهدافها السياسية والعسكرية، السعوديين تحديدًا كانوا عند لحظة صحيحة للتقييم الموضوعي للخطر على حدودهم، كان ذلك في العام 2009 عندما تسللت عناصر حوثية في مركز الخوبة الحدودي وأعقبتها اشتباكات مسلحة. لقد رأت الرياض أنه من غير المقبول استنساخ حزب الله اللبناني على حدودها الجنوبية. كانت تلك أحد أهم التقييمات الدقيقة للخطر الذي تشكله الجماعة على الأمن الوطني السعودي، ورغم ذلك فإن ما خلقته الظروف السياسية في مرحلة الربيع العربي وأفضت إليه في المشهد اليمني، تطلب من الإدارة السعودية اعتماد نهج الاحتواء، وهي السياسة التقليدية التي لطالما انتهجتها منذ اتفاقية الطائف بين الملك عبدالعزيز وإمام اليمن يحيى حميد الدين عام 1934.
*- الارتباك الأميركي في التعامل مع جماعة الحوثي يعود في الأصل إلى منهجية الحليف الإستراتيجي السعودي الذي له سياساته في التعامل مع القوى اليمنية
كان يفترض أن تكون حرب تحرير عدن في أكتوبر 2015 هي النقطة الحاسمة لولا ذات التقييمات الخاطئة التي استفادت منها جماعة الحوثي. وكان يفترض أن يتخذ بعد تلك الحرب القرار الإستراتيجي الذي يضمن واقعية الأمن القومي العربي، باعتبار أن عدن تمثل النقطة الحساسة للممرات الملاحية الدولية، كما أنها تشكل عمقا إستراتيجيًّا للأمن المصري باعتبار واحدية قناة السويس مع باب المندب. أخضع القرار السياسي بعد تحرير عدن للخطاب الترهيبي الضاغط الذي شكلته جماعة الإخوان المسلمين التي كانت بالفعل تسيطر على القرار السياسي في الشرعية اليمنية التي كان يرأسها عبدربه منصور هادي.
التزمت دولة الإمارات بما تحملته من مهام ضمن التحالف العربي، واعتمدت على تصنيفات واضحة للأطراف اليمنية. لم تتعامل مع جماعة الإخوان كونها مصنفة إرهابية واعتمدت على المقاومة الشعبية الجنوبية ذات التوجه الوطني الرامي إلى استعادة اليمن الجنوبي إلى ما قبل 1990. القوات الإماراتية أهلت قوات محلية وأعدتها لخوض مرحلة اجتثاث العناصر التكفيرية التابعة لتنظيمي القاعدة وداعش، وتحقق الهدف الأكبر بتحرير المكلا في 2016 بعد عام من سيطرة تنظيم القاعدة على الساحل الحضرمي، ما كان يحدث في الميدان حتم تشكل قوات النخبة الحضرمية والحزام الأمني لتقوم بمهام الأمن في كل مساحة يتم تطهيرها من الجماعات الإرهابية.
بنهاية 2018 كانت القوات الإماراتية مع قوات العمالقة الجنوبية قد وصلت إلى عمق مدينة الحديدة أهم موانئ اليمن الشمالي. تكبدت جماعة الحوثي الهزيمة الثانية لها في تاريخها بعد هزيمتها الأولى في عدن، وأوقفت العملية العسكرية بتفاهمات دولية وبرغبة من حكومة الرئيس هادي وحلفائه من جماعة الإخوان. المجتمع الدولي كان يتصور أن الحرب في الحديدة ستؤدي إلى تفاقم الحالة الإنسانية في البلاد، بينما كان الرئيس هادي وحلفاؤه يخشون من أن تمكن القوات الجنوبية من السيطرة على الحديدة سيمنحهم ورقة تفاوضية تمكنهم من فك الارتباط مع الوحدة اليمنية.
المكايدات الداخلية فوتت فرصا حقيقية كان يجب استثمارها، غير أن سياسة الاحتواء التي أصرت عليها قائدة التحالف السعودية كانت إحدى أهم نقاط الضعف التي أفشلت عاصفة الحزم، ولم تحقق هدفها الأساسي بإعادة الشرعية إلى صنعاء. الهدنة التي فرضت بين جماعة الحوثي والمجلس الانتقالي الجنوبي وشركائه الوطنيين اليمنيين من المجتمع الدولي لم تحقق خرقاً سياسياً إلا في أبريل 2023، عندما كسر السفير السعودي الجمود بزيارة صنعاء في خطوة غيرت قواعد الاشتباك السياسي وشجعت الحوثيين ليذهبوا إلى الرياض، لكنهم في المقابل لم يقدموا تنازلات وظلّوا متشبثين بمُطالبَتِهم بحوار ندّي مع السعودية، وهو ذات المطلب الذي كانوا قد وضعوه مع انقلابهم في سبتمبر 2014.
*- ما خلقته الظروف السياسية في مرحلة الربيع العربي وأفضت إليه في المشهد اليمني، تطلب من الإدارة السعودية اعتماد نهج الاحتواء
التقديرات الخاطئة لا بد أن تصل إلى نتائج خاطئة، وهذا ما حدث ويحدث في اليمن فلطالما كانت التقديرات غير دقيقة ومنها حقيقة أن جماعة الحوثي وحدها، دونا عن غيرها من وكلاء إيران، هي التي اندفعت في مواجهة إسرائيل بعد هجمات حماس في السابع من أكتوبر 2023. الحوثيون رغم أنهم والقوى اليمنية يستعدون لتوقيع اتفاقية لترتيبات اقتصادية وإنسانية تهدف إلى إنهاء الحرب الطويلة وبدء مفاوضات سياسية، إلا أنهم بادروا بقصف إسرائيل بصواريخ بعيدة المدى وخطفوا سفنا تجارية في باب المندب، التصعيد الحوثي أهم مستهدفاته يبقى في فرض نفسه كقوة أمر واقع ليس في حدود اليمن الشمالي بل في عموم الجمهورية اليمنية.
الارتباك الأميركي في التعامل مع جماعة الحوثي لا يتعلق في مضمونه بالصراع الحزبي الجمهوري والديمقراطي، بل هو يعود في الأصل إلى منهجية الحليف الإستراتيجي السعودي الذي له سياساته في التعامل مع القوى اليمنية. واقعية المشهد تقتضي قراءة مختلفة تتجنب فكرة الاحتواء والذهاب إلى القراءة الموضوعية، فالحوثيون لا يرضخون إلا بعد أن ينهزموا، وهذا ما حدث في عدن والحديدة، وعليه فإن الواقعية تفرض نهجاً موازياً بفرض تمكين الجنوبيين من دولتهم ومنحهم قوة الردع العسكرية لتأمين الملاحة الدولية وليقوموا بدعم الجبهة الوطنية اليمنية لتشكل بدورها توازناً سياسياً في شمال اليمن.
لا مفرّ من هذه الخطوة فلن تستطيع القوى الدولية وإن تعاملت عسكرياً مع جماعة الحوثي إخضاعها للاندماج في المجتمع الدولي، خطة إنشاء تحالف عسكري واسع يؤمن الملاحة البحرية سيعيد إنتاج القراصنة الصوماليين في اليمن وستتطلب سنوات طويلة لإتمامها، بدون استدعاء المنطقية والخروج من دائرة الحسابات المبنية على فرضيات لا تمت بصلة لعقلية اليمنيين التي تجيد المتاجرة بالحروب لن يتمكن أحد من الوصول إلى نتيجة حقيقية تضمن سلامة أمن واستقرار الملاحة وكذلك اجتثاث التنظيمات الإرهابية، لا مجال آخر يمكن أن يحقق المستهدفات الصحيحة الضامنة لاستقرار المنطقة غير العودة إلى ما قبل 1990 في اليمن.