سؤال مهم من الجدير بكل مهتم بالشأن السياسي أن يطرحه على نفسه ويناقشه مع نفسه إن لم يكن مع الجميع.
لن أخوض في ثنائية الثورة والانقلاب وما يتصل بهذه الأحجية البيزنطية لأن ثورة سبتمبر كانت محاولة للشعب كل الشعب اليمني للخروج من شرنقة الحكم الثيوقراطي العنصري المتخلف إلى رحاب الحرية وبناء دولة المواطنة حتى وإن أتت هذه الثورة على شكل انقلاب عسكري تجشم عبء مغامرته ثلة من الضباط الأحرار والمثقفين وبعض القضاة والوجهاء الاجتماعيين، ومن بين كل هؤلاء مجموعة من ثوار 1948م ممن نجوا من سيف الإمام الإبن وهو ينتقم لأبيه القتيل في تلك الثورة الموؤودة.
لقد أطاحت ثورة سبتمبر بالنظام الإمامي، وبالأصح لقد أطاحت بالأسرة الإمامية بكل تأكيد، لكنها لم تطح بالثقافة الإمامية، والعقلية الإمامية ونحن هنا نقصد الثقافة بمفهومها الواسع المتمثل بطريثة التفكير ونظاك العلاقات المجتمعية والتراتبية الطبقية ومفهوم الإنسان والإنسانية ومن ضمن كل هذا العادات والتقاليد البالية التي تأصلت عبر أكثر من ألف سنة من، كما لم تقدم ثورة سبتمبر بتأصيل ثقافتها الجديدة القائمة على الولاء الوطني وتعميم ثقافة المساواة الاجتماعية من خلال دولة المواطنة، والمقصود هنا المواطنة المتساوية التي لا فرق فيها بين صغير وكبير وبين مواطن بدرجة شيخ وآخر بدرجة موظف أو مزارع أو عامل نظافة.
كل ما نقوله هنا لا ينفي وجود جماعات متفرقة من ذوي الثقافة المدنية بل والوطنية الحديثة لكن هذه الجماعات كانت مستبعدة ومهمشة بل وعرضة للحرب العلنية المكشوفة، ولنتذكر ما جرى مع حالتين معاصرتين في مطلع الثمانينات من القرن الماضي وفي أوج التباهي والاحتفاء بسبتمبر وجمهوريته:
الأولى حينما صدرت الفتوى القاضية بتكفير الشاعر الدكتور عبد العزيز المقالح رئيس جامعة صنعاء على خلفية قصيدته "الله الأغنية الثورة" والتي عبر فيها عن رفضه للمتاجرة باسم الله وتحويل جلالته إلى سلعة وأداة من أدوات هوليود.
والثانية في نفس الحقبة عندما أصدرت نفس الجماعة نفس الفتوى بحق الأستاذ الدكتور حمود العودي أستاذ علم الاجتماع بنفس الجامعة على خلفية كتابه "المدخل الاجتماعي في دراسة التاريخ والتراث العربي".
لقد بقيت ثقافة ما قبل سبتمبر قائمة في ذهنية وعقول وسلوك القطاعات الواسعة من أبناء الشعب في الشمال، بما في ذلك جزءٌ كبيرٌ من المحسوبين على سبتمبر ومن أنصاره، فظلت الرشوة جزء من منظمة التعامل في الإدارة والعلاقات الإدارية، وبقيت العادة والعرق أقوى من القانون، والزملاء للقبيلة أقوى من الولاء للوطن، والامتثال للشيخ أوسع انتشارا من الامتصال القاضي وضابط الشرطة ومدير المديرية، وبالمقابل لم تبن ثورة سبتمبر منظومتها الثقافية ولا القانونية الجديدة الخاصة بها والمبنية على حاجات التنمية والنهوض والمنظومة التشريعية والحقوقية.
وإذا ما تذكرنا أسماء الصناع الأوائل للثورة السبتمبرية فإنه يمكننا استنتاج أن رعيل الثورة وصناعها ومهندسيها ومثقفيها ومفكيرها قد فقدت الثورة جلهم خلال العقد الأول من عمرها وخلال السنوات الأولى فقط فقدت الثورة قائدها الأبرز ومهندسها ومفكرها الأول الشهيد علي عبد المغني الذي ما تزال ظروف تصفيته مجهولة حتى اللحظة، وهو نفس ما جرى مع الشاعر والقاضي محمد محمود الزبيري أحد أبرز وجوه هذه الثورة والمحرض عليها وشاعرها الأشهر، الذي أغتيل في جبال برط بعيد تقديم استقالته من وزراة المعارف، أما قصة الشهيد عبد الرقيب عبد الوهاب، مؤسس الحرس الوطني والقائد الأشهر في فك الحصار عن صنعاء خلال السبعين يوما المعروفة فهي بكل ما فيها من مأساوية ووحشية ودموية تلخص جوهر الصراع بين السبتمبريين النوعيين الحقيقيين الذين أرادوا جمهورية وطنية حداثية تساوي بين مواطنيها وتنتقل بهم إلى عوالم القرن العشرين بعلومه وتقدمه ونهوضه وكرامة الإنسان وسؤدده فيه، وبين السبتمبريين المصلحيين الذين أرادوا تغيير شكل الحكم من خارجه والاستبقاء على مضمونه المتخلف مع الاحتفاظ بتراتبية التمايز الاجتماعي وعدم التعرض للجماعات التي لا مصلحة لها مع الثورة بل اخترقتها وحولتها إلى مصدر من مصادر غنائمها، وليس صدفة أن تعمم حينها المقولة الساخرة "ديمة خلفنا بابها" التي يعبر من خلالها اليمنيون عن عدم وجود أي اختلاف بين نظام الإمامة والنظام الجمهوري إلا بالتسمية والشكل فقط.
لقد انتصر التوجه الأخير باغتيال الشهيد الحمدي والانتقال إلى نظام فردي جهوي لم يكن يمتلك أي برنامج سياسي ولا اقتصادي ولا اجتماعي، لكنه هيمن على البلد ثلث قرن من الزمن احتفظ لها بموقع متأخر بين أكثر البلدان فسادا وتخلفا وقابلية للانهيار والتفكك، وهو ما حصل خلال العقد الأخير من عمر الجمهورية اليمنية بعد اجتياح الجنوب واختطافه وتحويله إلى غنيمة حرب بيد مستثمري الحروب وتجارها وصانعيها.
وباختصار شديد لقد تآكلت قوى الثورة الحقيقية وأكلت الثورة أبنائها، كما يقال، حتى آلت إلى أيدي غير السبتمبريين ولذلك لم يكن صعباً عليهم التخلي عنها وتسليمها لأعدائها بين عشية وضحاها وشطب كل الأحلام والتطلعات والآمال التي علقها ملايين المواطنين اليمنيين على هذه الثورة.
ربما سيسألني أحدهم: ولماذا فشلت ثورة أوكتوبر؟
هذا ما سأتوقف عنه في مرة قادمة.