فتوى تحريم آلة الطباعة
قام الفقهاء بتحريم ومنع دخول علوم واختراعاتٍ مهمة كانت وبدون ادنى شك ستساهم بنهضتنا أو وعلى اقل تقدير تقلل من التأخر والتخلف الذي نقبع فيه الى يومنا هذا. ومن أهم هذه الفتاوي فتوى تحريم آلة الطباعة ومنع دخولها أراضي الخلافة الإسلامية أيام الدولة العثمانية.
فلم يتقبل "علماء الأمة" فكرة أن يُكتب لفظ الجلالة وأسماء الله الحسنى بواسطة آلة طباعة صنعها البشر لا يد خلقها رب البشر، بالإضافة إلى حرصهم على استمرار أسلوب التعليم المبني على الحفظ . فالحفظ هو سمة التعليم لهذه الأمة كما ارتأوا لتُمنَع آلات الطباعة من دخول العالم الإسلامي لمدة تزيد عن 200 سنة ... والحديث هنا عن إسطنبول (عاصمة الخلافة)، فعليكم أن تتخيلوا كم تأخر هذا الاختراع عند الحديث عن مدن كبغداد أو دمشق أو القاهرة، فقد تأخر دخول الألة الطابعة لما يزيد عن 200 عام بل يقارب الـ 270 عاما تقريبًا منذ ظهور أول آلة طباعة في ألمانيا.
خلال هذه الأعوام ... كانت أوروبا تطبع وتؤلف الكتب وتنشرها بأسعارٍ رخيصة جدًّا، مقارنةً بالكتب المنسوخة عندنا، ليقرأ الأوروبي هذه الكتب فتُثقفه وتزيد من آفاقه ليتشجع هو الآخر بالمساهمة في هذه النهضة الفكرية فيؤلف كتبًا أخرى للرد على هذه الكتب أو كتبًا تضيف معلومات تدعم وتنمي الكتب القديمة. 200 عام كوّنت ثقافة القراءة التي أنتجت الجدل والتفكير والتأليف والإبداع لدى الغربي ونحن نائمون في عتمات تلك الفتاوى الظلامية التي صدرت من علماء الأمة
ومن قراءتنا لتاريخ تحريم الطباعة، يمكننا استنتاج أسباب عدم وجود ثقافة القراءة بعالمنا العربي الإسلامي على عكس الغرب. فالطباعة ظهرت عند الغرب بزمن لم يكن فيه (الراديو والتلفزيون) قد وُجدا بعد، فكان توفر الكتب والصحف والمجلات التي هي وسيلة تلقي المعلومات والترفيه الوحيدة الموجودة بذلك الزمن فتفاعل القارئ مع الكاتب والقارئ مع القارئ، ليبدأ العصف الذهني والسجالات والحوارات فينمو العقل وتنمو معه ثقافة القراءة. وبالمقابل ظهرت الطباعة والكتب المطبوعة بمنطقتنا في بدايات القرن الماضي أو حتى أواسطه (بشكل فعال). وظهرت بمجتمع تغلب عليه الأمية والجهل الممنهج الذي كانت تمارسه الدولة العثمانية ببلداننا. وظهر الكتاب المطبوع بالتزامن مع الراديو والتلفزيون تقريبًا.
استقبل الغرب الراديو والتلفزيون بعد تشكل ثقافة القراءة فأصبحت جزءًا من الحياة اليومية له. فمن الطبيعي أن يفضّل الإنسان العربي المسلم البسيط الراديو والتلفزيون على الكتاب وهذا ما حدث فعلًا بمنطقتنا الغالبة عليها الثقافة السمعية وأسلوب التعليم القائم على الحفظ والتلقين لا الحوار والتحليل والبحث.
ولم يكتفِ الفقهاء بتحريم الطباعة، بل سيطر أحفادهم فقهاء اليوم على المطبوعات بعد السماح بها، فراقبوها ومنعوا كل ما يخالف أهواءهم أو ما يرونه يعود بالضرر على أمتهم (حسب اعتقاداتهم طبعا) ولم يكتفوا بذلك بل سيطروا على مطبوعات المناهج الدراسية أيضًا، فمنعوا الفلسفة والمنطق وحظروا علومًا ونظريات علمية كنظرية النشوء والتطور في الأحياء التي أصبحت حقيقةً علميةً في العالم المتقدم، وهي النظرية التي بني عليها علم قائم بحد ذاته، هو علم الجينات. ومنعوا العلوم الحقيقية ورسّخوا بالعقل العربي أن سبب تخلفنا هو بعدنا عن الدين، والحقيقة أن تخلفنا سيطرتهم على الناس بالدين وبفتاويهم الصادرة عن جهلهم بالعلوم وتعارض تلك العلوم مع الدين تارةً، أو فتاوي صادرة بسبب الضغوط السياسية والاقتصادية التي يمارسها أصحاب النفوذ والساسة تارةً أخرى.
*- متابعات ثقافية