كنا قد توقفنا في الجزء الأول من هذا المنشور عند ثلاثة من المستحيلات الأربعة التي تصبغ المشهد السياسي على الساحة اليمنية، وتتحكم في مسارات التعامل مع الأزمة اليمنية التي لم تكن بدايتها يوم 21/ سبتمبر 2014م بل تمتد جذورها إلى ما يقارب العقود الثلاثة وربما مئات السنين من الصراعات السياسية على مساحة اليمن المعروفة تاريخيا بالمملكة المتوكلية اليمنية وما سبقتها من مسميات، ثم الجمهورية العربية اليمنية، ولخصنا هذه المستحيلات، في: استحالة استمرار الهيمنة الحوثية على المساحة الشمالية، استحالة اجتثاث الجماعة الحوثية والقضاء النهائي عليها، واستحالة عودة الشرعية الراهنة إلى صنعاء بعقلية وثقافة المتحكمين فيها، لأنهم يتعاملون مع أزمة جديدة بمعطيات جديدة وتعقيدات جديدة، ويريدون بناء "دولة مدنية حديثة" كما يدَّعون لكنهم يستندون على عقليات ومنهاجيات ومعتقدات متأكلة لم تعد قابلة للعيش.
لقد جاءت المحاولة الوحدوية في العام 1990م طوعيةً وتوافقيةً وكان الجنوب هو المبادر إليها بينما تردد الأشقاء الشماليون وخرجت المظاهرات الرافضة للوحدة مع (الشيوعيين الملحدين)، كما روج أساطين حزب الإصلاح حينها بتدابير متفق عليها مع مراكز المخابرات الرسمية الشمالية، لكن هذا المشروع الذي كان يمكن أن يكون عنوانا لعهدٍ جديد من الازدهار والتنمية والنهوض الاقتصادي والاجتماعي والعلمي والتكنولوجي لكل اليمنيين في الشمال والجنوب، تحول إلى كابوس بالنسبة للجنوبيين منذ اليوم التالي لإعلان 22 مايو، ولم يقدم شيئا للشعب الشمالي إلا ما ظفر به الناهبون والمتنفذون والمستحوذون من غنائم الحرب والعدوان ومنهوبات المنشآت والأراضي والشواطئ والثروات.
ويمكننا كتابة آلاف الصفحات لاستعراض مسار الأحداث بين يومي 22 مليو 90م و7 يوليو 94م واستعراض نتائج حرب غزو واحتلال الجنوب عام 1994م التدميرية وما وطنته من جراح غائرة ما تزال محفورةً في نفوس وعقول ومستقبل الجنوبيين صغارا وكبارا حتى اليوم.
كما يمكن تدوين مجلدات لاستعراض أعمال القتل التنكيل والملاحقة والتشريد لآلاف الجنوبيين منذ فترة الحراك السلمي في العام ٢٠٠٧م دعوكم مما قبلها من ضحايا الاستبعاد والإقصاء والتهميش والقتل المتعمد على أيدي أجهزة الأمن الرسمية والجماعات الإرهابية المستأجرة من قبل النظام وأجهزته المخابراتية.
وسنحتاج إلى مثل هذا للتذكير بأكثر من عشرة آلاف شهيد واضعافهم من الجرحى والمعوقين من ضحايا العدوان على الفعاليات السلمية خلال الفترة التي كان فيها رشاد العليمي وزيرا للداخلية ورئيساً للجنة الأمنية وكان طارق عفاش ضابطاً في الحرس الجمهوري الذي شارك في كل تلك العمليات وكان اخواه أحدهما قائدا للامن المركزي والأخر قائدا للامن القومي وهما شريكان رئيسيان في كل أعمال القمع والتنكيل والقتل العمدي والتسخير الممنهج للجماعات الإرهابية المحلية والعالمية ضد الجنوب والجنوبيين.
كما سنحتاج إلى مثل هذا للحديث المتشعب عن الأسرى والمعتقلين والمحكومين ظلما وعدوانا من الناشطين السياسيين الجنوبيين بأحكام جائرة في محاكم أمن الدولة، بناء على اتهامات ملفقة على خلفية نشاطهم السياسي السلمي المدني من الجنوبيين.
كما سنحتاج إلى مجلدات لاستعراض غزوة ٢٠١٥ الثانية التي استكملت تدمير ما تبقى على غزوة ١٩٩٤م، حينما كان طارق عفاش يقف في المنصة مرددا الصرخة مع الحوثيين وشريكا لهم في مشروعهم السلالي العنصري التدميري، وكذا للحديث عن الآلام والجراح والدمار والخرائب التي خلفتها هذه الحرب الإجرامية على الجنوب والجنوبيين حينما هرب غالبية القادة الشماليين بحثا عن ملاذ آمن ونسوا "الوحدة اليمنية" وتركوا الجنوبيين يدافعون على أرضهم وهم أقرب إلى العزل من السلاح.
لقد اكتفينا بالإشارة إلى عناوين المعانات والعذابات والآلام والخرائب التي تعرض لها الجنوبيون على مدى ثلث قرن مما يسمونه "الوحدة اليمنية" المعمدة بدماء الجنوبيين وأرواحهم وآلامهم ومقابرهم المتسعة في كل محافظات ومديريات الجنوب أما التفاصيل فستحتاج إلى مجلدات ومجلدات.
بعد كل هذا يأتي من يقول لك "الانفصال يؤدي إلى تمزيق اليمن"، وهم قد صنعوا الانفصال بأفعالهم وسياساتهم وعقلياتهم الاستحواذية الطغيانية الاستبدادية العدوانية، كما مزقوا اليمن شر ممزق ولم يدعوا قبيلتين متجاورتين إلا ودقوا بينهما الأسافين وزودوهما بالأسلحة لتتقاتلا لعشرات السنين، فما بالنا بدولتين وشعبين عرف تاريخ علاقاتهما من الاقتتال والغزو والعدوان والدماء والجراح، أكثر بعشرات المرات مما عرف من السكينة والسلام وكان الجنوبب هو الضحية دائما وكانت سلطات الشمال هي المعتدي والغازي والناهب والسالب لكل ما فوق الأرض وما تحتها.
يقولون هذا وكأنهم بكل حروبهم وجرائمهم بحق الجنوب والجنوبيين كانوا يقدمون لهم الحلوى والعطور والورود وهدايا أعياد الميلاد، أو كأن الدماء التي سألت والارواح التي ازهقت والمنشآت التي دُمِّرت أو سُلِبت والخدمات التي أُعدِمت، والثروات التي نُهِبت، والحقوق التي انتُهِكت كانت مجرد ضحايا حادث سير يمكن حل أمرها من خلال قانون المرور.
الذين يتغنون بـ"الوحدة اليمنية" ويحاولون بعث الحياة في جسدها الذي نخروه بديدانهم السامة، ويحذرون من "الانفصال وتمزيق اليمن"، لا يختلفون عن ذلك ألأحمق الذي أحرق منزل أهله التاريخي الأثير وأهلك ساكنيه ودمر أملاكهم ولم يبقِ على علامةٍ من علامات المنزل وأهله، ثم راح يتغنى بأمجاد أجداده وآبائه ويحذر من المساس بها وهو من حولها إلى أثرٍ بعد عين.