ذكريات من الزمن الجميل

2022-04-12 17:26

 

أحببت هذه المرة أن أبتعد عن السياسة وأجواء الحرب التي تعصف بحياتنا وفرقتنا وشتت شملنا في اليمن وكانت زلزالا مدمرا أصعب من انهيار سد مارب الذي هاجر اليمنيون بعد خرابه الى أصقاع الأرض وتفرقوا أيدي سبأ ..

ها هي الحرب بعد سبع سنوات عجاف لا زالت  جذوتها كامنة   تحت الرماد !!

  وفي هذا المقال أحببت أن أعود بالذاكرة للسنين الخوالي لعلها تحيي القليل من الأمل  والتفاؤل لما نتمنى في المستقبل لأجيالنا ، وعندما تعود بنا الذاكرة   الى زمان الصبا والشباب نستعيد منه الصور جميلة التي لا زالت مستوطنة في خلايا الذاكرة ، وتظهر أمامنا كلما استدعيناها  في شريط بالألوان الطبيعية نرى فيه ذكريات الماضي الجميل  الذي لازال عالقا في كل نبض في قلوبنا نستحضره كلما هيجنا الشوق والحنين  الى تلك الأيام الخوالي التي طواها الزمن علها تواسينا في هذا الزمن الأغبر ... وتأبى مفارقة عقولنا وقلوبنا نستحضرها ونكتب عنها  ليس بحثاً عن أجر أو شهرة وإنما نكتب بعفوية وصدق نية عن أمانينا ومن عاشوا معنا من رفاقنا  ومن الناس  الذين  كانوا قدوة حسنة لنا من مربين وأساتذة كرام ، وعن أيام لا زال  إيقاعها  الطيب في نفوسنا  نعبر فيه  عن حنيننا إلى زمن جميل عشناه  كان يتسم بسهولة الحياة فيه  وجمال سلوك وأخلاق أهله وطيبتهم وتكاتفهم  وأمانتهم  وسعادتهم الفطرية السمحة ، حتى إن قل الرزق  في تلك الأيام تجدهم حامدين شاكرين ينامون ليلهم ملئ جفونهم .

عندما أحن إلى ذلك الزمن الجميل فإنني أسرح في أوديته وجباله أقطف من نباتاته  الندية العطرة فأجد فيها راحة ومتعة تخفف عني  ألم المعاناة في الحاضر الصعب الذي تبدلت فيه النفوس وأصبحت سوداء مظلمة تلهث  خلف أطماع الدنيا ولا ترى في النهاية إلا السراب أو خرط القتاد ،  أجد نفسي أحن الى زمن الطيبين البسطاء  وإن اعتبره آخرون زمناً قاسيا ولكنه جنة مقارنة بهذا الزمن الرديء الذي نعيشه  اليوم !!

 زمن اليوم يختلف عن  زمن تلك الأيام حين كان معظم التلاميذ  يقطعون   المسافات الطوال راجلين  للوصول إلى مدارسهم  كل يوم  رغم معاناة السير الطويل ، لا فرق بينهم  ،وهم  يعلمون أنهم سيجلسون  ويتعلمون العلم بالمجان من معلمين مرموقين صادقين وجادين في اداء عملهم ، زمن كانت توزع فيه ملابس المدرسة ومعها  الكتب والكراسات و الأقلام والمساطر والمحايات مجانا على كل التلاميذ ولا يذكر الرسوب في تلك المدارس  والتنافس محموم على المراكز العشرة الاولى . ولا زلت أتذكر عندما كنا ندرس في "مدرسة زنجبار الوسطى للمحميات " هكذا كان أسمها ونسكن في القسم الداخلي  والمكون من دورين وفيه حوالي 10 غرف تتسع كل منها لحوالي 10 الى 15 سريرا  وخلفه مباشرة الحمامات وفي الناحية الجنوبية المطبخ وصالة الطعام وثلاث فلل  للمدرسين ويقابل القسم الداخلي مبنى المدرسة ويتكون من دورين وبينها وبين القسم الداخلي المسبح وحدائق وملاعب وأشجار الديمن والمريمر المعمرة واحواض الزهور تنتشر على كل الواجهات ومربعات مزروعة بالنجيل " الحشائش الخضراء "   والأهم من ذلك كله أنها ليست مسورة  ويقع الخط العام القادم من عدن في الجهة الشمالية  للمدرسة ولا يوجد فيها الا حارس واحد فقط !!

(( سأكتب لاحقا  حلقة خاصة عن تلك المدرسة العريقة))

ومن جهة  الناس كانت كلها تكد وتجد تتاجر وتزرع وتحصد وترعى المواشي ويصطادون الأسماك  ويمتهنون الحرف الفنية من نجارة وحدادة ويتكاتفون مع غيرهم يفرحون لفرحهم  ويحزنون لحزنهم، وتسكنهم القناعة والطمأنينة والرضا بما قسم الله لهم في الدنيا  يصلون لربهم حامدين شاكرين .

وكثيرا ما نتخيل الماضي في صور رومانسية، نصفه بالجميل ونتوق إليه ونتمنى عودته؛ عندما كنا  نجتمع حول الجد أو الجدة أو والدينا  أو كبار السن في الأسرة ونطلب  منهم سرد قصص الماضي وحكاياته، ونتمنى لو كانت لدينا الفرصة لأن نعيش حياتهم  وعندما نسترجع ذكريات صبانا نحن الى رفاقنا ونجدد التواصل معهم لنجدد الذكريات الحلوة والمرة التي عشناها معا ، ونتمنى عودتنا لتلك الحياة التي نصفها دائما بالبسيطة أو " الزمن الجميل " على الرغم من أن حياة الماضي كانت مليئة بالصعوبات والأمراض والفقر والعوز وانعدام الخدمات  إلا أننا ما زلنا نحن إليها ونتمنى عودتها ، ومعظم الناس يشعرون بالحنين للماضي ، ويعيد العلماء حالة الحنين هذه إلى عدة أسباب، أهمها، أن الشعور بالحنين ناتج عن العاطفة؛ فالناس لديهم عواطف جياشة تجاه الماضي وتجاه ما هو بعيد ولا يمكن الوصول له. ومن أسبابه أيضا، أن الحنين للماضي يحدث كردة فعل لمشاعر سلبية يعيشها الإنسان تجاه لحظات من الحاضر كمحاولة للهروب من الواقع المر الذي يعانيه  في حياته أحيانا ، فالحقيقة أن الإنسان لا يحن لماضيه وإنما يحن لأشياء محددة فيه، فيسترجع اللحظات الجميلة فقط من الماضي في مقابل اللحظات الصعبة التي يعيشها في  الحاضر، فعندما تحن إلى طفولتك، أنت تحن للحظات جميلة معينة عشتها في طفولتك لا تجدها وأنت كبير في السن ، مثلا انعدام المسؤولية، اعتمادك على غيرك ليفعل لك كل شيء، اللعب طوال الوقت، وجود إخوتك وأبناء عمومتك  ورفاق الصبا من اترابك تجدهم حولك  ، وقد تفرقوا الآن كل في حال سبيله ، فاشتياقك للماضي هو في الواقع اشتياق لتلك الأشياء واللحظات وأولئك الأشخاص وأصدقاء الطفولة والصبا من كانوا يلعبون معك وعاشوا معك لحظات الحزن والفرح . ومن أهم فوائد الحنين أنه يمنع الإحباط؛ فبرغم أن الحنين الزائد والارتباط بالماضي  يزرع الأمل في نفوسنا بأن المستقبل ربما سيكون أفضل من الحاضر. إلا  أننا نحن للماضي ، لكن التعلق به وعدم تقبل التغيير الذي يحدث في حياتنا قد يكون لهما أثر سلبي علينا ويعيق تقدمنا. إلا أن ذلك لا يمنع أن  نتذكر لحظاتنا الجميلة التي تومض في حياتنا  لتكون وقودا ذهنيا لنا يعيننا على المستقبل.

د .علوي عمر بن فريد